اقتنيتُ اليومَ من سوق الكتب المُستعملة كتابًا للأستاذ الأديب المغربي عبد الكريم غلاّب بعنوان (مع الأدب والأدباء) صدر عن دار الكتاب بالدار البيضاء سنة 1974م، اقتنيته بعد أن تصفحت فهرسَه سريعًا فوقعت عيني على مقالة له بعنوان: (زوربا نفس كبيرة زوربا مجنون)، وأنا كما يعلمُ كثير من القرّاء عنّي أعشق هذه الشخصية، وأكرّر قراءة هذه الرواية الخالدة كثيرًا، ولا أجد المتعة إلا معها، علمًا أنّني قد قرأتُ الكثير من الروايات العالمية والعربية غيرها. وقد وجدتُ بعد قراءتي للمقالة أنّ الأستاذ غلاّب قد فُتن بها وبشخصية مؤلّفها قبل أن أولد بست سنين، وأعجبني قوله كما لو كان يتحدّث بلساني:
(من العمل الجيّد الذي عُدتُ إليه -فقد قرأته قبل هذه المرّة منذ سنتين فيما أحسب- رواية الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكي (زوربا). عدت إليها لأنّي ما أزال أحسّ بأطياف المُتعة في قراءتي الأولى لها تُحلّق في سماء فِكري، ولأنّي وضعتها في صفّ الكتب التي ينبغي أن تقرأ وأنا أخطّط لقراءاتي المُقبلة).
عاد إليها كما يعود إلى المدينة الحافلة بالحياة والحركة والانفعال، يتعايش فيها الفكر والعمل، الإيمان والإلحاد، الملائكة والشياطين، السماء والأرض، العُنف والهدوء، الحبّ والحِقد، التّقدير والاحتقار، الفجور والطّهارة، الوفاء والخيانة، في مدينة كهذه لا نضلّ رغم المُنعرجات والمُنعطفات، فأنت واجد نفسَك إن كانت نفسُك من الرّحابة بحيث تسع كلّ المضامين الإنسانية. وقد لا تجد نفسك إن كانت من الضّيق بحيث لا تسبح في آفاق واسعة كآفاق زوربا. ولذلك فأنت لا تقرأها وقد تضيقُ بها وأنت تقرأها فتتركها. على حدّ تعبيره.
وكذلك أعجبني قولُه الذي لطالما حاولتُ إيصاله إلى القارئ في كتاباتي: (تصوير هذه الشّخصية بكل هذه القوّة وهذه الحركة والانفعال والانطلاقة في الحياة، وبكلّ أبعادها الإنسانية والفنية والفلسفية والعقلية والجنونية، تصوير هذه الشخصية لا يمكن أن يقوم به أديب موهوب إذا لم يكن مُثقفًا كبيرًا.
وهكذا كان الكاتبُ اليوناني نيكوس كازانتزاكي: فقد درسَ الحقوق والفلسفة، وقرأ الكثير في الآداب العالمية وترجم إلى اليونانية أمّهات الكتب عن الفرنسية والإيطالية والإسبانية والإنجليزية والألمانية، وقَرَضَ الشّعر وكتب في الفلسفة والأدب، ولكن من أهمّ جولاته الثقافية سلسلة من الرحلات قام بها إلى إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وروسيا والصين واليابان ومصر، كلّ ذلك منحه تفتّحا فكريًا وعقليًا كان عُدّتَه في خلق هذه الشخصية الروائية الفذة).
كان هذا الكتاب للأستاذ عبد الكريم غلاّب غنيمة صباحية عظيمة لم تكن في الحسبان، فلم يمرّ على معرض الكتاب إلاّ أسبوعٌ واحد، وكثرة الكتب التي اقتنيت منه لم تجعلني أفكّر في زيارة الكتبيين في السّوق الأسبوعي لولا القمحُ الذي كلّفتني زوجي باكتياله، إذ لولا ذلك لما قرأت ولا عثرت على هذه المقالة النّفيسة عن حبيب القلب (زوربا). فليس بين سوق القمح وسوق الكتب المستعملة إلا خطوات يسيرة..
ومن الطّريف أنّني كنت مسكونًا بكتابة رواية قبل قراءتي لـ(زوربا)، ولكن بعد أن قرأتها وكرّرت قراءتها، أحجمت عن كتابة الرواية وماتت هذه الرّغبة في داخلي، لسانُ حالي ما قاله صديقٌ لجبرا إبراهيم جبرا حين كانا في مطلع الشباب، كما حكى ذلك عن نفسه في كتابه الرائع (معايشة النمرة وأوراق أخرى؛ ص:18):
(أحسنُ ما يُمكن أن يُقال، قد تمّ قولُه. وأروع ما يمكن أن يُكتب، قد تمّت كتابته. فلماذا تريدُ أن تكتبَ؟ لماذا تطلبُ وجع الرأس هذا، وأمامك ملايين الكتب قد أنجزَتْ لك كلَّ ما يمكن أن تفكّر به أو تتخيّله؟ وفّر على نفسك العناء والقهر، وتمتّع بروائع الحضارات كلّها، بالروائع التي أجهد الآخرون أنفسهم بخلْقها، وأورثوها لك..).
كيفَ اكتشفتُ رواية زوربا؟
كان ذلك قبل سنتين ونصف، حين كنت في دُكّان صديق لبيع الجرائد والسجائر والكتب، وبينا نحن نناقش بعض الأمور التافهة كعادة المغاربة، فإذا بصديق ثالث ينضمّ إلينا، تعرّفت عليه في هذا الدّكان، وهو أستاذ وباحث جديد في الفلسفة، يحبّ كانط وهيجل محبة عظمى، وكان في شكّ وريبة من وجود الله سبحانه وتعالى، ولكنّه كان لطيفَ المعشر ليّنًا لا يؤذي أحدًا، ولا يجادل في ما يؤمن به ويعتقده، ولا يفرضه على محاوره، كان في ذلك المساء من أمساء نيسان يحمل في يده رواية زوربا طبعة دار الآداب ترجمة جورج طرابيشي، وعليها توقيع بقلم صديق له أهداه إياها، وكتب تحت التّوقيع بخطّ جميل: ستجد في هذه الرّواية الكثير من الدّهشة والمتعة مع الودّ أيها الصّديق !
أخذتها منه وشرعت أقلّب صفحاتها برفق كما لو كانتْ يدًا ناعمة لامرأة جميلة بَضّة جاد بها القدر عليّ في ساعة من ساعات القهر العربي! وبما أنّ النّقاد يقولون إنّ روعة الرّواية خاصة والكتب الأدبية عامة تعرفها من براعة واستهلال الكاتب، فقد وجدتني أفقد حاسّة الزمكان في تلك اللحظة حين غطست وسط ذلك الدّكان بين مقدّمة المترجم، واستهلال الكاتب. لم أسمع بالمؤلف من قبل، فهو فيلسوف وكاتب وشاعر ومترجم يوناني وكان وزيرًا، اسمه له مشكلة مع شفتي من يتكلّمون بالعربية مثلي، مرّت عليّ أيام أردّده كي أحفظه وأنطق به كما ينطق به أهل لغته وبلده وثقافته (نيكوس كازانتزاكي)..
وحين رآني هذا الصّديق قد انصرفت عنهما تماما وخلوت بالرّواية، قال لي: خذها إذا أردت أن تقرأها قبلي، فأنا لن أقرأها هذه الأيّام بسبب الامتحانات، وهو يعلم عشقي للكتب، ونهمي الكبير في قراءتها، كما يعلم أنّني سأحتفظ بها كما لو كانت عنده تماما، لأنّ الكتاب عندي مُقدّس، وسأردّها له في أقرب فرصة.
فأخذتها لمدّة أسبوع كامل، عشتُ معها أجمل اللّحظات والأوقات، ووقعت في غرام الكاتب، وأحببت زوربا كما لم أحبّ شخصية روائية من قبل، وقرّرت أن أشتري الرّواية لتكون ملكي، وأكتب عليها هوامشي وملاحظاتي وخواطري واندهاشي وصدماتي التي أحدثتها لي، كما قرّرت أن أشتري كلّ أعمال الكاتب المُترجمة، وكذلك كان، فاقتنيت له: تقرير إلى غريكو، والإخوة الأعداء، والمسيح يُصلب من جديد، وحديقة الصّخور، والمنشق، لكن لم أجد زوربا للأسف بين كلّ هذه الكتب.. لم أجد الدّهشة التي استحوذت عليّ، لم أجد الحياة وجمالها، وحقيقتها التي استطاع الكاتب أن يرسمها بكلّ دقة، لم أجد (خطّ روحه وحبر قلبه، وأحلامه المجنونة وجنوح أقماره ومُجون شمسه ويُتمه الحارق وإلهه الغامض والمكشوف وصراخه المكتوم وجروحه المدموغة بالحب وأسطورة الحياة والموت، تلك الحياة التي يغوص فيها ملكًا ومالكًا مفاتيح الأسرار السحرية، قابعا في ركن الليل، ساجدًا لإله يبحث عنه في السكينة بين الوجوه، على سرير الغياب، وفي شذا الجمال وموسيقى الكون، لعلّه يرى ويستكين).ولا أنكر أنّ سيرته الفكرية تقرير إلى غريكو كانت مفيدة وممتعة أيضا، ولكنها ليست كرواية زوربا التي يصدق فيها قول الأديب الألماني فرانز كافكا: (أعتقدُ أنّه يجِبُ علينا قراءةَ الكُتب التي تُدمينا، بل وتغرسُ خناجرَها فينا. نحن بحاجة إلى الكُتب التي لها وقعُ الكارثة، الكتب التي تُحزننا بعمقٍ مثلَ وفاة شخص نحبّه أكثرَ من أنفسنا، مثلَ أن نُنفى بعيدًا في غابةٍ بمنأى عن الآخرين، وكأنّه الانتحارُ. يَجبُ أن يكونَ الكتابُ هو الفأس الذي يكسر جمودَنا).
وكما قال الرّوائي التركي أورهان باموق في كتابه (ألوان أخرى؛ ص:134): في النّهاية تُصبح الرّواية المُدهشةُ جُزءًا لا يتجزّأ من حياتنا ومن العالَم حولنا، تُقرّبنا من معنى الحياة، إنّها تأتي مكانَ السّعادة التي قد لا نجدها أبدًا في الحياة لتُقدّم لنا فرحةً مُستَمَدَّةً من معناها.
وهذه بعض الاقتباسات من الرواية:
* – أنا حُرّ يا زوربا؟
– كلاّ لستَ حُرًّا؛ كُلُّ ما في الأمر أنّ الحبلَ المربوطَ في عنقكَ أطولُ قليلاً من حبال الآخرين! (زوربا؛ ص:57).
* عندما يكون الرئيس صلْبًا، يخشاه العمّال، ويحترمونه، ويشتغلون. وعندما يكون الرئيس ضعيفًا، يضعون الرَّسَنَ في عنقه ويجرّونه بهدوء. أتفهم؟
أرجوك أيها الرئيس لا تتدخل في أي شيء. أنا أبني وأنت تهدم. ما هذه القصَصَ التي كنتَ ترويها لهم اليوم؟ اشتراكية وهُراء! أأنت واعظ أم رأسمالي؟ يجب أن تختار… (زوربا؛ ص:71).
*الإنسان بهيمة؟ بهيمة كبيرة.
إذا كنت سيِّئًا معه احترمك وخافك. وإذا كنت طيِّبا فقأ عينيك.
(حافظ على المسافات أيها الرئيس، لا تشجِّع البشرَ كثيرًا، ولا تقل لهم إنّنا جميعًا متساوون، وإنّ لنا جميعًا الحقوق نفسَها. وإلاّ فإنّهم سيدوسون حقَّك أنت، ويسرقون خبزك ويتركونك تفطس من الجوع. حافظ على المسافات، أيها الرئيس، من أجل الخير الذى أريده لك).. (زوربا؛ ص:73).
* وتأخّرت في النّوم. وفكّرتُ في نفسي: لقد ضاعت حياتي. لو أستطيع أن آخذ إسفنجة وأمحو كلّ ما تعلّمته، كلّ ما رأيته وسمعته، ثم أدخل إلى مدرسة زوربا وأبدأ الأبجدية الكبيرة، الحقيقية ! كم ستكون الطريق التي سأسلكها مختلفة ! سأدرّب حواسي الخمس، جلدي كلّه، كي يتمتّع ويفهم. سأتعلّم الرّقص، والقتال، والسباحة، وركوب الخيل، والتجديف، وسواقة السيّارة، وإطلاق البندقية. سأملأ روحي بالجسد.. وأملأ جسدي بالروح. سأوفّق أخيرًا، في نفسي، بين هذين العدوّين الأبديّين. (زوربا؛ ص:98).