بيني وبين الأستاذ عصيد.. حماد القباج

أجدد الشكر لقناة (مدي1) على استضافتها لي في برنامج “مواطن اليوم”، لمناقشة موضوع: “دور القرآن بالمغرب بين الحال والمآل”، وتحية للأستاذ يوسف بلهيسي.
لقد كانت الاستضافة فرصة لفتح نقاش فكري ماتع ومفيد مع أساتذة لهم مشاركة ثرية في الحياة الفكرية ..
وقد تبادلت الرأي في هذا النقاش مع الأستاذ أحمد عصيد في بعض القضايا التي لم نتمكن من توفيتها حقها من النظر والبحث، بسبب التزامنا بموضوع الحلقة الذي كان يقتضي عدم التوسع في الاستطراد.
وحتى تتم الفائدة؛ ارتأيت أن أعوض بعض ما فاتنا بهذه المقالة:
وأبدأ بقضية “السلفية” و”السلف الصالح”؛ وقد أشرت في البرنامج إلى حقيقة السلفية وأنها رجوع إلى الوراء فيما يحمد الرجوع فيه، وليست رجوعا مطلقا يجعلها توصف بالرجعية أو الماضوية أو التخلف ..
وأن هذا الرجوع المحمود محاط بإطار واضح؛ وهو الإطار الديني، ومتعلق بمناط معتبر شرعا وعقلا قائم على مقدمة ونتائج:
أما المقدمة فهي أفضلية السلف الصالح في التعامل مع الدين فهما وعملا وسلوكا.
وهي مقدمة صحيحة؛ لأنها قائمة على براهين شرعية وعقلية تفيد العلم اليقيني؛ وقد ذكرت تلك الأدلة في كتابي: “السلفية في المغرب ودورها في محاربة الإرهاب”.
وأما النتائج المترتبة على هذه المقدمة الصحيحة فهي:
1- السلف الصالح مناط اقتداء لمن أراد ممارسة الدين
2- إجماعهم حجة في استنباط الأحكام الشرعية
3- أصولهم الاجتهادية صحيحة ومقدمة على ما يخالفها من قواعد
وهذا يحيلنا على معطى مهم قد يمثل حلا للإشكالية التي طرحها الأستاذ عصيد؛ وهو أن السلفية ليست ضد التطور في المجالات الدنيوية المختلفة، وليست ضد الاجتهاد الشرعي الذي يجعل الدين مواكبا بل مهيمنا على ما يستجد في عوالم الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والعلوم المادية بشتى أنواعها التجريبية والاجتماعية والتكنولوجية ..
وإذا كانت السلفية في جوانب من هذا موافقة لدعوات التحرر والإبداع والاجتهاد؛ فإنها تتميز عنها حين تلتزم أحكام الدين من جهة، كما تلتزم في حركتها الاجتهادية الدينية بأصول وقواعد السلف التي تبلورت في علم أصول الفقه من خلال قواعد الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى ..
وهذا يقودنا إلى حقيقة أخرى مهمة؛ وهي أن السلفية تتمسك بأحكام وقواعد الدين تمسكا شرعيا يرى فيه المخالف تشددا وحرفية تتنافى مع مفهوم الحرية الذي أفرزته الثورة الفرنسية، وتبنته الفلسفة الغربية المعاصرة في نظرتها لحقوق الإنسان، وهنا مربط الفرس ومعقد الإزار كما يقال، وهو أصل الخلاف مع المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها الأستاذ عصيد ..
وهذا المعطى يحيلنا –هو بدوره- على إشكالية أخرى؛ وهي العلمانية وتصورها للدين والتدين، فالبحث مرتبط في أساسه بهذه الإشكالية، وليس مرتبطا فقط بالتشدد الديني أو التزمت والانغلاق في ممارسة الدين.
نعم؛ نحن نقر بوجود ممارسات تديّنيّة تصطبغ بالغلو والتشدد، ووجود ممارسين للتدين ينحون منحى الانغلاق والتزمت، وهذا موجود عند السلفيين وغيرهم، بل موجود في سائر الأديان ..
وهنا نحتاج إلى وضع حد شرعي فاصل بين التدين الوسط المعتدل، وبين ما يكتنفه من تحلل وتساهل من جهة، أو تشدد وغلو من جهة أخرى.
وأدعو القنوات الوطنية إلى فتح حوارات جادة ومسؤولة في هذا الموضوع، يشارك فيها (الفرقاء الفكريون) بدل أن نبقى في جو الاصطدام والتنابز والقذف ..
قضية أخرى أرى من المهم توضيح القول فيها:
وهي قضية العلاقة بين “السلفية في المغرب” والسعودية، والتي تشكل هاجسا للمهتمين، وكثيرا ما تضيع الحقيقة فيها في أثناء التحليل السياسي المجازف المبني على الفلسفة المادية في تفسير الظواهر، والذي عبر عنه الأستاذ عصيد بقوله بأن الدولة السعودية عندها تضخم مالي يضطرها إلى نشر مذهبها.
والسؤال المنطقي: لماذا لا نقرأ موقف الدولة السعودية في سياقه الصحيح: وهو أنها تؤدي واجبها في تبليغ رسالة الإسلام وإقامة الدعوة الإسلامية، وليس هذا عنها بغريب؛ فهي بلاد الحرمين ومهبط الوحي ومنطلق آخر رسالة سماوية إلى العالم، وهذا يشرفها بمسؤولية أداء واجب الدعوة أكثر من غيرها.
هذا عن موقف الدولة السعودية.
أما موقفنا نحن؛ فلا أظن عارفا بالسلفية يتهمها بأنها تقلد أو تستنسخ عادات وأعراف السعوديين المرتبطة بالدين والتدين؛ ذلك أن السلفية ترفض تعطيل العقل وإلغاء الاتباع الشرعي من خلال الدخول في أي نوع من أنواع التقليد، ولو للأئمة المجمع على جلالة قدرهم ..
فكيف يمكن أن تقبل بتقليد من دونهم؛ كالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب أو غيره من علماء السعودية القدماء أو المحدثين؟؟
إن السلفية لا تقدس إلا النص، ومن قدسه النص، ولا تقلد إلا اضطرارا، وما يصدر عن علماء المشرق والمغرب كله سواء في كونه يتبع منه ما وافق الدليل والحق ويرد منه ما خالفهما كائنا من كان صاحبه، وهذا هو عين ما وجه إليه الأئمة؛ ومنهم إمامنا مالك رحمه الله الذي قال: “انظروا في رأيي؛ فما وافق القرآن والسنة فخذوه وما خالفهما فاتركوه”اهـ
ومع هذا؛ فلا بأس من الانفتاح على المفيد والنافع من الخطاب الديني السعودي أو غيره؛ لأسباب أهمها:
1- أننا أمة إسلامية من المشرق إلى المغرب:
قال الله تعالى: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}
ونستحضر بهذه المناسبة ما نص عليه تصدير الدستور الجديد:
من العمل على “تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية الإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة”اهـ
2- الإسلام نفسه جاء من المشرق، والإمام مالك رجل من المشرق ومن المدينة النبوية خاصة، والإمام سحنون مهذب المدونة المعتمدة في الفقه المالكي من علماء تونس، وعبد الرحمن بن القاسم من علماء مصر، وهكذا ..
3- وفي مغربنا المعاصر انفتحنا على مذاهب فقهية في كثير من القضايا؛ منها: قضية مدونة الأسرة التي أخذت بأحكام مذاهب غير المذهب المالكي، ومنها: صلاة الغائب؛ فهي لا تشرع في مشهور المذهب، ومع ذلك جرى بها العمل عندنا.
فلا نرى في ظل هذه المعطيات المؤكدة لوحدتنا الحضارية مانعا من الاستفادة من علم المشرق والمشارقة ، وضرورة الحذر من الإغراق في مراعاة الخصوصية إلى درجة الانزواء والتزمت والأنانية، التي توهمنا بأن التدين المعتدل لا وجود له إلا في العادات والتقاليد المغربية.
وقد لفت انتباهي ما أظهره الأستاذ سعيد لكحل في تدخله في أحد (ربورتاجات) الحلقة؛ من الحرص على التدين المغربي، مع أنه ينتقد كثيرا من أحكامه التي تخالف أحكام المواثيق الدولية !
وهنا تظهر المفارقة: التباكي على الإسلام المغربي حين يكون المقابل ما جاء من الشرق ولو كانت أحكاما شرعية ثابتة، وتجاهل الإسلام المغربي حين يكون المقابل ما جاء من الغرب ولو كان قوانين وضعية تخالف أحكام الشريعة الإسلامية ..
ولقد قال الأستاذ عصيد كلمة حسنة؛ وهي أننا ينبغي أن نأخذ من الشرق أحسن ما فيه ومن الغرب أحسن ما فيه.
لكن على مستوى الواقع؛ نلاحظ أن المدرسة التي ينتمي إليها الأستاذ لا تعمل بهذا، والدليل أن جمعية بيت الحكمة –مثلا- التي ينتمي إليها؛ دافعت وتدافع عن ممارسات سيئة تم استيرادها من الغرب، وكان دفاعها باسم احترام الحريات وحقوق الإنسان؛ ويمكن في هذا الصدد أن أسأل الأستاذ مباشرة عن موقفه –مثلا- من:
1- استحمام النساء في البحر بالطريقة الشائعة اليوم
2- ربط الفتيان والفتيات علاقات صداقة تستباح فيها العلاقة الجنسية
3- الزواج المثلي
4- الإفطار العلني في رمضان
وهنا لا بد أن أشيد بمداخلة الأستاذ محمد بولوز شريكنا في الحوار؛ حين قال: لماذا نشدد في الرقابة على دور القرآن، ونغض الطرف عن مدارس التعليم الحر، مع ما يتفشى في هذه الأخيرة من انحرافات أخلاقية حادة؟
ويمكن أن نقيس على هذا التساؤل فنقول: لماذا تحركت الجمعيات الحقوقية غيرة على فتيات خياليات نسجتهن أحلام فتوى الشيخ المغراوي المزعومة، ولم تتحرك لفتيات موجودات في الواقع يعانين من انحراف سلوكي حاد يجعل منهن مدخنات وزانيات ومدمنات خمر ومخدرات؟؟
ومنهن عدد كبير يمثل سوقا رائجة لشبكات الدعارة وزنا القاصرات وراقصات الهوى ؟..
وهذا يجرني للتعقيب على الأستاذ عصيد في قوله: لماذا نتهم الغرب بأنه هو الذي يصدر الانحلال والفسوق؟
وقوله: ألا يوجد الانحلال والفسوق في تاريخنا الإسلامي نفسه؟
فأجيب قائلا: إذا كنا نتحدث عن مجرد وجود المعاصي والفجور الخلقي؛ فهذا موجود في المجتمعات كلها.
لكن الفرق بيننا وبين الغرب (وأعني به الحضارة الرومانية القديمة والحضارة الأوروبية المعاصرة)؛ أن هذا الأخير صار فيه الانحلال ظاهرة متفشية تشكل ملمحا بارزا وطابعا غالبا، وعندها تغطية سياسية وقانونية، بخلاف العالم الإسلامي الذي كان ذلك الانحراف فيه من قبيل الحوادث الفردية التي كانت تمارس في الخفاء وبعيدا عن أنظار القانون.
وهنا أجد المقام مناسبا لطرح ما جرى بيني وبين الأستاذ في مسألة الاختلاط؛ ونعني به جميعا الاختلاط في الدراسة والعملية التعليمية:
وقد جزمت أن الفصل هو الأولى والأنفع من منطلق الحكم الشرعي الذي أكده المذهب المالكي، وبينت أنه الخيار الذي أكدته أيضا أحدث الدراسات في علمي الاجتماع والنفس المتعلقة بالموضوع.
فكان رد الأستاذ: ولماذا لم يتم الأخذ بهذه الدراسات وتطبيقها في الواقع؟
وهذا تساؤل مستغرب جدا؛ والجواب عنه هو عين الجواب عن الأسئلة التالية:
لماذا لا يؤخذ بالدراسات العلمية التي تقضي بخطورة التدخين؟
لماذا لا يؤخذ بالدراسات التي تقضي بخطورة شرب الخمر؟
لماذا لا يؤخذ بالدراسات التي تقضي بخطورة الزنا؟
لماذا لا يؤخذ بالدراسات التي تقضي بخطورة اللواط؟
فهذه الممارسات كلها محرمة في الشرع، مستنكرة في أحدث وأقوى الدراسات العلمية الموضوعية، ومع ذلك لا تعمل القوانين بمقتضاها، اللهم إلا في بعض دول العالم الإسلامي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية والصين على تفاوت وإلى حد ما.
والأستاذ يعلم جيدا خلفية هذا الموقف؛ وهي فلسفة ضريبة الحضارة ..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *