ما وقفت عن نفاسة المطلب الدعوي، والذخر الثمين لمن حصلت له إجابة الله عن دعائه: “ربِّ أرني الحق حقا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلا وارزقني اجتنابه”، فعرف بعد هذه الإجابة الحق من الباطل، وتعدى منزلة المعرفة هاته إلى مقام إيثار الحق على الباطل، حتى رأيت سعادة المفكر الباحث أستاذ مادة المقارنة بين دين الحق وسراب التثليث، وأسطورة الهيكل، وقد حلَّ ضيفا على برنامج إضاءات في حوار مع تركي الدخيل أحد صحفيي قناة العربية الفضائية، حينها وأنا أسمع وأرى، تذوقت معنى الخذلان، ومفهوم عبادة الهوى، والسجود للأوهام، وتجليت الفارق بين الجهل البسيط الذي هو عدم الإدراك بالكلية، والجهل المركب الذي مفاده إدراك الأشياء على وجه مخالف لما هي عليه في الحقيقة، وليس في كلامنا هذا غلو ولا مكابرة، فقد نسيء ونعمد إلى الإساءة معذرة إلى الله، وحمية على صرح الحق وتعصبا له، ولعل في الإساءة إذا جانسها الحق والصواب إحسان إلى المخالف وأخذ بيده.
وكيف لا يعمد المرء وفي قلبه مثقال ذرة من غيرة سعد، إلى الشدة والإغلاظ مع طينة لزبة مسنونة، أولها: جهل وأوهان بغير برهان، وآخرها: جهالة ونسيان، وبين هذا وذلك برزخ من التعالم والاستكبار بغير حق، والعناد بغير برهان، تعالم يريد أصحابه وهم كُثر أن يتهارشوا على مائدة نصوص الوحي، جرداء بغير قداسة تحميها ليتسنى لهم تطويع الأحكام وتكييفها مع مناط المصلحة المتفلتة من عقال الشرع الحكيم، وليشرعنوا الانبطاح باسم الوسطية والانصهار في بوتقة التفسخ، والتماهي مع الانحلال الغربي باسم الاجتماع والتعارف..
ولذلك فلا عجب أن ينضح لسان هذه الغثائية معبرا عما هو راسب في تجاويف القلوب المقفلة من حقد وبغض واستصغار لشأن الجيل السالف ومكانته التاريخية، جيل وُجهت له تهمة احتكار النصوص وإحاطتها بقشرة سميكة، وهالة من التفاسير والتأويلات المقدسة، التي حالت وتحول وستحول بإذن الله بين هؤلاء المتربصين ونصوص الوحي، التي وكما قرر سعادة الفيلسوف لا زالت غضة طرية تسقى بين الفينة والأخرى بماء الفتوحات، وترياق الكشوفات، فيحتاج محصولها الفكري المشبع بروح التجديد إلى إحداث زلزال يبسها بسًّا، ثم يرجها رجًّا، فيخرج من بين صلبها وترائبها فهما جديدا للإسلام، يتماشى ومتطلبات العصرنة، ومستلزمات الحداثة، وإكراهات الديمقراطيات الوافدة علينا بغير تأشيرة من صحراء الصقيع.
ولا غرابة بعد هذا أن يأتي في طي هرطقة السيد بوهندي أن عصر إمامنا مالك قد انتهى، ومع انتهائه يرى سعادة المفكر مسيس الحاجة إلى أئمة جدد، يعيشون عصرهم وزمانهم، ولا يعيشون فقط تاريخهم، ويستطيعون أن يخرجوا إلى الوجود فهما سائغا عن صناعة الموت، وخدمة العنف، الذي طغى على القراءات والتفسيرات المتواتر ذكرها، والمحبورة سطورها عن السادة الأسلاف، فهما قشيبا تكون فيه الأولوية للحياة بعزها وذلها لا ضير، حياة تعيد للإنسان قدسيته التي حجبتها بغيا عملية تقديس النصوص.
نعم، إن “السِيد” بوهندي وكما جاء في كلامه يرى في الإنسان: المقدس الأول في الإسلام، بيد أن لفظ الإنسان عند أخينا ليس لفظا عاما بل له خصوصيات وقيود، على رأسها أن الإنسان موضوع الحديث ومادته هو الإنسان ذو التوجه الحداثي الإسلامي، والذي من صفاته أنه يعطي لنوازعه البشرية هامشا من التحرر والاسترسال ذي التأثير الفاعل في حقل الإنتاج الثقافي الديني، وبهذه الخصيصة يكون السيد الأستاذ قد استثنى الرعيل الأول والقرون الخيرية، بل عمد إلى معاملتها ومعاملة جهدها بالتجريد الحائف الذي يقوم على سحب العدالة من الكل أو الأغلب، فيسهل بعد ذلك اتهام الأشراف، بكون منتوجهم قد أصبح اليوم غير مواطئ لمراد الله من لازم كلامه، متجاوزا في بعضه، أو كله تراثا مهمشا نرجع إليه لقراءته قراءة استئناسية، ونجوب أرشيفه في زيارات سياحية متباعدة الأزمان مترهلة الصلات.
وحتى لا نسترسل مع الباطل فتأخذنا العزة بإثمه، نقول: إن من مزايا الإحاطة علما بالباطل حصول القلب على ما نشده أبو الحنيفية السمحة، حينما سأل الله كشف هيأة إحياء الموتى، قال: “بلى ولكن ليطمئن قلبي”، ونحن إذ سمعنا ما قاله هذا الباحث عن الماء في غياهب السراب قد حصل ما حصل من الاطمئنان القلبي الذي وقفنا من خلاله على صدق نبوءة سيد الخلق، بل وتمثلنا من خلال هذا الحوار الملغوم، قول نبينا وتخبيره عن الأيام الخداعات، وزمن ظهور الرويبضة، رويبضة لا يتكلم في شأن العامة فحسب، بل ينسحب غدره إلى الوراء الضارب في أطناب الشرف، ومعالم العزة والمروءة حيث جيل التمكين، الذي وصفه رب العزة والجلال بالزرع الذي أخرج شطأه، وحصل له ما حصل من التآزر والرحمة البينية، والشدة الغيرية مع الخصم المتربص، فيا ليت شعري هل قرأ هذا المتفلسف عن سيرة هؤلاء الأعلام؟
وكيف باع مصعب بن عمير حظوة الأم ومظاهر الغنى؟
وكيف صبر خباب بن الأرث، وقد جعلت سيِّدتُه من ظهره الشريف مطفأة لموقد نارها؟
وكيف كان بلال تسحبه صبية قريش على تراب مكة وقت الهاجرة، وقد علق في جيده الشريف حبل العذاب، وأكل من ظهره سوط العقاب؟
وكيف فُعل بآل ياسر، وقد أخرجتهم الأيدي الحافلة بالبغي إلى الأبطح مجردين من ثيابهم، تقرع ظهورهم السياط، تعريضا لهم للفتنة في دينهم؟
وقائمة من أوذي في سبيل الله من هذه الثلة الطاهرة ضاربة في الطول والعرض، وليس المجال مجال بسط لما وَصَلَنا بالتواتر المحمود عن هذه الحيوات النوعية التي كانت دماء أمواتها، ومعاناة أحيائها الحجر الأساس الذي قام عليه هذا الدين العظيم، فتراءى للعيان بنيانه كأنه الجبال الراسيات، وتقوت عرى العقيدة الصحيحة في نفوس المنتسبين، فكان التمكين والظهور.
فما أجمله من زرع، أصله ثابت في الأرض، وفرع ثمره متصل بسدرة المنتهى، أكلنا من أترجته فاستقوى البدن، وقويت الشوكة، واشتممنا من عبق أريجه، فربى مقام الروح حتى وطئ أمرها مقام الرضا، ومنزلة الاطمئنان.
فاللهم اجزي عنا أسيادنا هؤلاء، بخير ما جزيت به عبادك الصالحين، واحفظ لنا ذكرهم بين سابق ولاحق، وسالف وخالف، واعصم سبيلهم الذي هو صراطك المستقيم من الإقعاد الذي توعدنا به عدوك وعدونا إبليس اللعين، إنك سميع مجيب.