شروط الخلاف المعتبر رشيد مومن الإدريسي

مر معنا في مقال (التعليل بالخلاف..) أن هذا الأخير من أسباب ترك الأخذ بالصواب عند الاختلاف في المسائل الشرعية المطروحة، ومدخل لاتباع الهوى والبعد عن المسالك المشروعة، ذلك لأن “تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام”1.

ولا نعني بهذا الكلام أنه لا خلاف يسعنا، وإنما الغرض تقرير أصل مهم استحضاره إذا عرضت المخالفة، وظهرت المباينة وهو أنه “إذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة للشرع “2.
وعليه فاحذر -خصوصا زمن التغيرات وتسارع الأحداث واضطراب التوجهات- أن تنتحل فكرة أو مذهبا، أو أن تعتقد في قضية ببادئ الرأي بزعم تحقيق (المصلحة العاجلة)! مع أن الأمر قد يكون محض هذيان، أو تخالف النصوص المُوَضَحة أو الفتاوي المحققة بدعوى (اختلاف الزمان3)!، ويكون ذلك كله على خلاف التحقيق، والنظر الدقيق، فيسير المرء وراء هواه4 ويعمد إلى المتشابه من النصوص ابتغاء تأويلها، ليُقنع نفسه ظاهرا، ومن معه في ما ذهب إليه، فمثل هذا الاختلاف لا يُعتد به ولا عبرة به فتنبه يا رعاك الله ولا تكن من الغافلين.
نعم، إذا انضبط الخلاف في المسائل وفق قواعد النُظار، وسيرا على طرائق أهل الاعتبار، وأخذا بما يضبط الأنظار، فلا ضير عندها لخلو الأمر من الخلل في المسار، فإن “القول إذا قال به عالم جليل، واحتمله الدليل، فلا إنكار ولا تضليل”، وهذا ما يُعرف عند أولي النظر باسم (الخلاف المعتبر) الذي تقبله العقول السليمة وتسع له الصدور، وإن كان الواجب السعي في خصوصه كذلك إلى التضييق، وتقرير الأقرب منه إلى الصواب في السطور، وحَدُّه أنه “الذي يجري في موارد الاجتهاد، وهي كل ما لم يقم عليه دليل صحيح سندا، ظاهر دلالة، ويكون في المتشابه الذي يحتمل تعدد الأفهام”.
فليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر
ومن ثَم فمعيب من طلاب العلم فضلا عن أرباب الفهم أن يَسِموا خلافا ما بالسائغ المعتبر دون إحكام شروطه، ولا تحقق ضوابطه(!!)، ومن الكلمات الجوامع في ذلك قول الإمام ابن القيم رحمه الله: “.. إذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة”5.
ومنه نأتي على ذكر شروط الخلاف المعتبر لإبعاد الغشاوة عن البصر، وتفصيل وتحديد الأمر، فإن بعد التعرية تجلية لمن أراد تصحيح النظر فنقول:
أولا: أن يكون القائل المُقرر للمسألة من أهل العلم، كما قال الحسن البصري رحمه الله: “إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”، ومما يجب التنبه له في هذا السياق أنه إذا كانت المسألة المختلف فيها تحتاج إلى دُربة أصولية مثلا كالكلام في النوازل والحوادث، فإنه لا يعتبر أصالة إلا قول من كان صاحب تمكن من الصنعة الأصولية وإن كان من أهل الفضل والعلم في الجملة6، وهذا ليس تحيزا ولا احتكارا لحق الاستنباط والاجتهاد، ولكنه تحكيم لقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، واحترام للتخصص، ومنع للعبث بالعلم والمعرفة.
وكما يصدق هذا على علم الأصول يصدق على كل المعارف كما ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله مشيرا إلى هذا المعنى حيث قال: “.. ومن يعرف من العلم ما لا أثر له في معرفة الحكم، كأهل الكلام، واللغة، والنحو، ودقائق الحساب فهو كالعامي، لا يعتد بخلافه، فإن كل أحد عامي بالنسبة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما سواه”7.
ثانيا: أن تكون الأصول التي تنبني عليها المسألة المعينة صحيحة بعد فهمها ووضوح مجالها فلا ذوق ولا كشف ولا تجربة، ولا معقول يخالف المنقول، ولا سوانح أفكار، ولا مصلحة مُطَّرحة، ولا دعوى اعتبار الواقع8 دون إدراك علمي ولا تصور شرعي وإن صحت الدوافع.. وهكذا دواليك مما يوقع بعض أرباب النظر في الاجتهاد الذي اصطلح عليه شيخ الإسلام رحمه الله بـ (الاجتهاد المركب) وحقيقته كما قال رحمه الله في معرض الحديث عن أقسام المجتهدين: “.. وثَم قسم آخر -وهم غالب الناس- وهو أن يكون له هوى، وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة، فتجتمع الشهوة والشبهة..
إلى أن قال رحمه الله: وأما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى: فهو مسيء..”9.
ولذا فـإن “النص على حكم كل حادثة عينا معدوم، وأن للأحكام تحصيل العلم بمقدماتها، فحق أن يبدأ بالإبانة عن الأصول لتكون سببا إلى معرفة الفروع “10.
قال الإمام القرافي رحمه الله: “.. ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية11 دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت..”12.
ثالثا: أن تكون المسألة محتمَلة في الأنظار السليمة والمدارك الصحيحة أي: تحتملها الأدلة الشرعية والقواعد المرعية بشرط أن يكون الاحتمال على وفق قوانين العلم وأسس الفقه فتنبه13، فإن “محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر “14.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “.. وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسا15 فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره لم أقل يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص”16.
وعليه فـ “من خالف كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وإجماع الناس كلهم على اختلاف طبقاتهم، فلا يعتد بخلافه”17.
رابعا: الحرص على صحة القصد وتحقيق الإخلاص ومن أعظم دلائله وعلاماته في الباب الذي نتكلم فيه (تمني الصواب للمخالف) و(الاستعداد للرجوع إلى الحق) و(صحة المسلك في الاستدلال)..
قال العلامة صديق حسن خان رحمه الله: “وإنما يعرف الحق من جمع خمسة أوصاف أعظمهما: الإخلاص، والفهم، والإنصاف، ورابعها -وهو أقلها وجودا وأكثرها فقدانا- الحرص على معرفة الحق، وشدة الدعوة إلى ذلك “18.
فالزم رحمك الله التحلي بالحزم والانضباط، والأخذ بالورع والتحرز والاحتياط، وسلوك مسلك الاعتدال بلا تفريط ولا إفراط، فإن الواجب عند الاختلاف التحقيق أصالة فبذلك الاغتباط، والحذر من محض الميل إلى قول من الأقوال بلا تنقيح، والاختيار بمجرد الالتقاط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر مجموع الفتاوي لابن تيمية رحمه الله (23/281-282).
2- الموافقات للشاطبي رحمه الله (4/161).
3- من الغريب في هذا الباب أن يختلط على طالب العلم الفرق بين خلاف المحال والزمان واختلاف التقعيد والبرهان، فالأول يخص التنزيل، والثاني له متعلق بالتأصيل.
4- يقول العلامة المعلمي اليماني رحمه الله: “فالعالم قد يقصر في الاحتراس من هواه ويسامح نفسه، فتميل إلى الباطل، فينصره ويتوهم أنه لم يخرج عن الحق ولم يعاده، وهذا لا يكاد ينجو منه إلا المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم من يكثر منه الاسترسال مع هواه ويفحش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمد، ومنهم من يقل منه ذلك ويخف” التنكيل (2/197).
5- الصواعق المرسلة (2/519).
6- صدر عن النُظار مقالتهم بأن الجهلة من أهل العلم بعلم الأصول هم (عوام العلماء) انظر الفتح المأمول في شرح مبادئ الأصول للشيخ محمد علي فركوس حفظه الله ص:13.
وفي ذلك قال العلامة أبو المظفر السمعاني رحمه الله: “.. فإن من لم يعرف أصول معاني الفقه لم ينج من مواقع التقليد، وعد من جملة العوام” قواطع الأدلة (1/18).
7- روضة الناظر (1/136)، وجاء في المسودة لآل تيمية (1/296): “مسألة: من ينتسب إلى علم الحديث، أو علم الكلام في الأصول وليس من أهل الفقه والاجتهاد فيه لا يعتد بخلافه فيه”.
8- ضبط تصور الواقع على وفق القواعد الشرعية، والأنظار العلمية مهم جدا عند تقرير الأحكام حتى نجتنب المزالق المنهجية في تحقيق المناطات، هذا لما يلحظه الناظر في جملة من الفتاوي والأحكام صدرت عن بعض أهل العلم والفضل كان النظر في مناطاتها وواقعها من جنس النظر العلماني(!) القائم على إخضاع النص الشرعي لواقع متقلب ومتنوع، يتماهى مع الناس ومصالحهم وأهوائهم المتباينة، وهنا يفقد النص فاعليته في التكليف ما دام أنه يتقولب وفق أي وعاء يقع فيه (!!) مع أن المقصد الشرعي من وضع الشريعة كما يقول الشاطبي رحمه الله في الموافقات (2/168) هو: “إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا”.
وعليه فقد يأخذ البحث في فقه الواقع دون ضوابطه العلمية صورة الخضوع للواقع، وهذا مزلق وعر في ميدان العلم والمعرفة وقد كشف عن ذلك الدكتور وهبة الزحيلي في كلمة متينة حيث قال فيها: “المرحلة الراهنة هي مرحلة العبث بالفقه الإسلامي تحت مظلة (التجديد والمعاصرة)، (مواكبة العصر)، (فقه الواقع)، أي: مسايرة الواقع، وليس بمعنى فقه الواقع الذي اشترطه علماؤنا لصحة فتوى المفتي، أو بحجة تيسير الأحكام الشرعية على الناس، وحملهم على العمل بالشريعة، لأن شريعتنا شريعة التسامح واليسر والتخفيف.
وهذا باب واسع للتفلت من الشريعة..” تجديد الفقه الإسلامي 209.
9- القواعد النورانية الفقهية 91.
10- قاله الإمام أبو بكر القفال الشاشي رحمه الله انظر البحر المحيط للزركشي رحمه الله (1/13).
11- وهذه هذه وما يعقلها إلا العالمون.
12- الفروق (1/3).
13- يقول ابن حجر الهيثمي رحمه الله في خصوص ذلك في معرض الحديث عن مسألة اختلفت فيها أنظار بعض أهل العلم: “.. لا بد وأن أنتدب لبيان ما في هذه المسألة من التفصيلات فحينئذ بادرت إلى بيان ما في كل من تلك الاحتمالات ثم إلى ترجيح أظهرها، وأدقها مُدركا وعقلا، وما عليه منها التعويل، وما هو الأوفق بما حققوه من التفريع والتأصيل ” الفتاوي الكبرى الفقهية (3/133).
14- الموافقات للشاطبي رحمه الله (4/155).
15- المراد من ذلك أن يكون مُدرك القول قويا فهذا شرط عند العلماء في الخلاف المعتد به أما إذا “ضعف ونأى عن مأخذ الشرع كان معدودا من الهفوات والسقطات لا من الخلافيات المجتهدات” الأشباه والنظائر لابن السبكي رحمه الله (1/112).
وعليه إذا ضعف دليل القول ومأخذه فإنه لا ينظر إلى قوة من قال، ولو بلغ في العلم شأوا لا يضاهى، بل يكون النظر إلى مدرك القول قوة وضعفا “فمن قوي مدركه اعتد بخلافه وإن كانت مرتبته في الاجتهاد دون مرتبة مخالفه، ومن ضعف مدركه لم يعتد بخلافه وإن كانت مرتبته أرفع” الأشباه والنظائر لابن السبكي رحمه الله (1/112-113).
16- الرسالة 560.
17- روضة الناظر لابن قدامة رحمه (1/136).
18- قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر 175.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *