(2) لَيْسُوا سواء!
الكثير من المؤسسات التعليمية في العالم تشهد تناميًا مخيفًا لظاهرة العنف المدرسي بكل تجلياته، سواء بشكله العمودي أو الأفقي، وما انفراط العقد إلا بسبب غياب الحزم وتمييع العلاقة بين المدرس والمتمدرس، والمبالغة في استعمال الليونة مع فئات متمدرسة لا تستحق هذا النوع من التعامل، لأن النفوس الإنسانية ليست سواء، (فمِن الناس من تكفيه الإشارة البعيدة فيرتجف قلبه ويهتز وجدانه ويعدل عما هو مقْدم عليه من انحراف. ومنهم من لا يردعه إلا الغضب الجاهر الصريح. ومنهم من يكفيه التهديد بعذاب مؤجل التنفيذ. ومنهم من لا بد من تقريب العصا منه حتى يراها على مقربة منه. ومنهم بعد ذلك فريق لا بد أن يحسّ لذع العقوبة على جسمه لكي يستقيم!) (محمد قطب في كتابه منهج التربية الإسلامية 2/192).
فالوعظ واللين لا يناسبان كل الفئات، بل إن الواقع يؤكد (أن هناك أناسا لا يصلح معهم ذلك كله، أو يزدادون انحرافا كلما زيد لهم في الوعظ والإرشاد. وليس من الحكمة أن نتجاهل وجود هؤلاء أو نتصنّع الرقة الزائدة فنستنكر الشدة عليهم!
إنهم مرضى. نعم. ومنحرفون. والعيادات السيكولوجية قد تصلحهم! ولا أحد يمنع عنهم العلاج النفسي أو أي نوع من أنواع العلاج، ولكن فلنحدر أن نجعل وسيلتنا في تربية النفوس أن نجاريها في انحرافاتها ونتلمس لها الأعذار. فإن ذلك نفسه يبعث على الانحراف ويزيد عدد المنحرفين!
إن التربية الرقيقة اللطيفة الحانية كثيرًا ما تفلح في تربية الأطفال على استقامة و نظافة واستواء. ولكن التربية التي تزيد من الرقة واللطف والحنو تضر ضررًا بالغا لأنها تنشئ كيانا ليس له قوام) (محمد قطب في كتابه منهج التربية الإسلامية 2/190).
وقد وصى الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -ألاّ يُعامل الناس بسياق واحد، لأن لذلك أضرارا كثيرة فقال: (لا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدًا لأهل الإحسان وتدريبًا لأهل الإساءة على الإساءة)- كتاب (آداب العالم والمتعلم في التراث العربي والاسلامي) للدكتور فاضل عباس علي النجادي ص:285.
و قال ابن الجزار القيرواني: (إن الصواب أن يؤدّب الصبي، فإن كانت طبيعته طبيعة مَنْ ليس بأديب ولا لبيب فهذا بيّنٌ للمعترض طريق الصواب، فأما إن كان الصبي طبيعته جيدة، أعني أن يكون مطبوعًا على الحياء وحبّ الكرامة والألفة محبّا للصدق، فإن تأديبه يكون سهلا، وذلك أن المدح والذّم يبلغان منه عند الإحسان أو الإساءة ما لا تبلغه العقوبة من غيره. فإن كان الصبي قليل الحياء مستخفّا للكرامة قليل الألفة محبّا للكذب، عَسُرَ تأديبا، ولا بدّ لمن كان كذلك من إرهابٍ وتخويف عند الإساءة ثم يحقق ذلك بالضرب إذا لم ينجح التخويف) (كتاب سياسة الصبيان وتدبيرهم المرجع ص:135 نقلا عن مقدمة الرسالة القيروانية؛ ص:34).
(3) العصا ليست شيئًا نُكُرا
للعصا حضورٌ بارزٌ في التاريخ الإنساني الطويل، سواء عند العرب أو الغرب، وإن كانت أغراض اتخاذها متباينة ولمآرب شتى، وقد ورد الحديث عنها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأخبار الأولين، و أشار الحق سبحانه لبعض مآربها على لسان من استعملوها كموسى عليه السلام، ونقل الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى- في تفسيره، قول ابن عباس فيها فقال: (تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إذا انتهيتُ إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حرّ الشمس غرزتها في الأرض وألقيتُ عليها ما يظلني، وإذا خفتُ شيئًا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتُها على عاتقي وعلّقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم).
وقال في موضع آخر: (ولقي الحجاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت يا أعرابي؟ قال: من البادية. قال: وما في يدك؟ قال: عصاي: أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، وأثب بها النهر، وتؤمنني من العثر، وألقي عليها كسائي فيقيني الحر، ويدفئني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي محمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب؛ وتنوب عن الرمح في الطعان؛ وعن السيف عند منازلة الأقران؛ ورثتها عن أبي، وأورثها بعدي ابني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى. (الجامع لأحكام القرآن).
كما ورد ذكرها بمعنى قدحي في استعمالات شتى، قد يطول المقام بسردها هنا.
ولئن كان الاتفاق حول شرعية وجودها و تنوع أغراضها الحياتية، فإن الاختلاف كان دوما حول استعمالها لتقويم السلوك البشري، وتأديب المنحرفين، وردعِ المستهترين، وقد سالَ مداد علماء الدين والتربية قديما وحديثا في ذلك، وكتبت أقلام عديدة في الموضوع، لذا فحديثي هنا لن يكون إخبارا بجديد، بقدر ما هو تذكير و إثبات لمبادئ تغافلت عنها هذه المذكرات التي تتبجح بها وزارات التربية الوطنية العربية والدولية بدعوى مخالفتها لحقوق الطفل. مع العلم أنّ الدول العظمى في العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية -والتي أقرّت هذه المذكرات- لا تتوانى عن تأديب من شاءت متى شاءت بما هو أشدّ من العصا، دون أن يرفّ جفنها!! فكيف تدّعي أن التأديب بالعصا للصبيان مخالف لحقوق الإنسان!!
(4) العصا ضرورة تربوية
من نافلة القول التأكيد أنّ المدرس لا يلجأ للتأديب بالعصا إلا إذا استنفد كل وسائل التأديب والتنبيه والتهديد والوعيد المشروعة، ومن العبث الاعتقاد أنّ المدرس (الحقّ) همّه بسط سطوته على تلامذته، والتلذّذ بإيذائهم وتعنيفهم، فليست (العقوبة أول خاطر يخطر على قلب المربّي ولا أقرب سبيل. فالموعظة هي المقدَّمة، والدعوة إلى عمل الخير، والصبر الطويل على انحراف النفوس لعلها تستجيب). لكن هناك حالات تستوجب نوعًا من الحزم والشدة لمصلحة التلميذ، والنّفس متى أمِنت العقاب أساءت الأدب، يقول محمد قطب (إن العقوبة ليست ضرورة لكل شخص. فقد يستغني شخص بالقدوة وبالموعظة، فلا يحتاج في حياته كلها إلى عقاب.. ولكن الناس ليسوا كلهم كذلك بلا ريب. ففيهم من يحتاج إلى الشدة مرة أو مرات ).
لهذا حين أطالب -كوني مُدرّسة- بضرورة الحفاظ على التأديب بالعصا بالمؤسسات التعليمية، فمن باب يقيني بجدواها لفئات معينة وفي مستويات معينة، و من صميم تجربتي التي تجعلني أسلك كل مسلك للتوجيه والنصح الودّي، لكنني أضطر أحيانا لاستعمال (العصا) وفق الضوابط التي سأتحدث عنها لاحقًا.
وقد اتفق العلماء على ضرورة ممارسة الثواب والعقاب في التأديب والتعليم، واختلفوا في نوعية العقاب، فمنهم من قال بالعقاب النفسي، ومنهم من قال بالعقاب البدني، ومنهم من قال بهما معا، مع ضرورة التدرج في العقاب.
فقد نصح علي بن أبي طالب رضي الله عنه بممارسة العقاب النفسي، بقوله: (ازجر المسيء بثواب المحسن). أما الماوردي فإنه يرى أن استعمال الثواب والعقاب ضروري لتحقيق تعليم جيد، ونراه يميل إلى العقاب المعنوي، ويفضل الثواب على العقاب بقوله: (وجعل لهم من الثواب قسطا، وندبهم إليه ندبا).
ويؤكد ابن جماعة أنه (على العالِم بأن يتدرّج بالعقوبة مع المتعلّم إذا ظهر منه سلوك وترف لا يليق، فيبدأ بالنهي والتلميح لا على التعيين، ثم ينهاه سرا، وإن لم يرتدع ينهاه جهرا ويغلظ عليه القول، فإن لم ينته فلا بأس حينئذ من طرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، كي لا يعمم سلوكه السيء، ولا يقتدي به الطلبة، والعقوبات عنده عقوبات معنوية ونفسية، وهذا ما يراه العاملي في “منية المريد” والعلموي في “أدب المفيد والمستفيد”. (نقلا عن كتاب “آداب العالم والمتعلم في التراث العربي والاسلامي”، للدكتور فاضل عباس علي النجادي بتصرف).
ويقول الدكتور فاضل عباس علي النجادي: (رأى بعض العلماء أن التأديب ضروري للمتعلم في المراحل الأولى من التعليم على أن يسبقها تدرج بالعقاب النفسي والمعنوي كالتلميح والوعد والوعيد ثم الزجر والعبوس وآخر الدواء الكي. فيكون العقاب البدني بالسوط على قدر المخالفة).
ويضيف قائلا: (إن الثواب والعقاب إرادة ربّانية، وقد أجازت التربية الإسلامية ممارستهما بأسلوب علمي دقيق، وميّزت فيه مراحل التعليم، متى تكون العقوبات البدنية فعالة. وتدرجت فيهما، مع تغليب الثواب على العقاب والبدء بالعقوبات النفسية قبل العقوبات البدنية، وبذلك تمّ التضييق على ممارسيها. وألا توقّع هذه العقوبات إلا وفيها مصلحة المتعلم وبشروط. وبذلك يكون علماؤنا قد سبقوا غيرهم من العلماء المحدثين من الغرب والشرق في تشخيص الآثار الإيجابية والسلبية للثواب والعقاب على سلوك المتعلم، لزيادة التحصيل وكفّ السلوك الخاطئ) (المرجع السابق ص:288).
يُتبع…