كم عمل الاستئصاليون -ولا يزالون- من خلال قنوات متعددة إعلامية وثقافية وفكرية على سلخ هذه الأمة من هويتها وتاريخها ومرجعيتها؛ وكم حاربوا الدين -الرباط الوثيق الذي يوحد أفراد الأمة- ووسموا المتمسكين به بالتخلف والرجعية والماضوية..؛ وروجوا من خلال آلتهم الإعلامية والفكرية أنه سلوك فردي؛ ومكون كان يصلح للمجتمع الزراعي المتخلف لا الصناعي المتطور؛ وأنه إرث من الماضي وجب التخلص منه إن كنا عازمين على بناء المجتمع الحداثي الذي يضمن الحقوق والحريات.
وصار هذا الخطاب يسوق بقوة من طرف من بُرِّزوا وسموا زورا “نخبة”!!، وبات كل من خالف هذا التوجه؛ وأيا كانت قيمته العلمية أو الثقافية؛ “شعبويا”، وشخصا لم يستطع بعد التخلص من أغلال الماضي وإرث الأجداد والأسلاف..
فمن جالس أصحاب هذا الفكر وناقشهم؛ أو تابع كتاباتهم وخرجاتهم الإعلامية؛ يدرك دون عناء أن لهم تصورات مغلوطة تماماً عن الدين، ومخالفة لقواعده وأصوله وأحكامه.
وهذا أمر طبيعي ومتوقع، على اعتبار أن معلوماتهم حول الإسلام في معظمها مستقاة من كتب ومجلات وجرائد فرانكفونية غربية؛ أو من مراجع خلفها مستشرقون اشتهروا بعدائهم للإسلام، أو هي من مؤلفات لباحثين ومثقفين مؤمنين بالعلمانية إلى درجة اليقين، استفادوا من إرث المستشرقين فأعادوا صياغة شبههم ونظرياتهم بطرق عصرية مع بعض الإضافات القليلة.
ومن المقرر أن المنطلقات الخاطئة تؤدي حتما إلى نتائج خاطئة؛ فالتصور المزيف والخاطئ عن الدين ينتج عنه سلوك مشين ومواقف عدائية؛ تدفع بالمنتمين إلى الفصيل العلماني إلى اتخاذ مواقف مسبقة من كل المسلمين المتمسكين بدينهم؛ وإصدار أحكام جاهزة بحق من يخالفونهم التصور والمنهاج.
وبعضهم يعميه التطرف فيركز جهده في البحث عن المثالب والتنقيب عن أخطاء قد يقع فيها بعض الإسلاميين؛ يكون سبب وقوع بعضهم فيها الجهل أو الاندفاع أو الحماسة أو العجلة أو سوء التربية أو غياب العلم والحكمة..؛ فيتخذ المتربصون من الفصيل الاستئصالي من هذه الأخطاء البشرية قنطرة للطعن في الدين وثوابته وأحكامه والمتمسكين به، مع العلم أن العقل والعدل يستلزمان عدم وقوع كل إنسان واع وناضج في هذا الخطأ الشنيع؛ لأن المحاكمة والمحاسبة تكون إلى المرجعية لا إلى سلوكات الأفراد وتصرفاتهم الطائشة، لكن الغلو يقود أهله دوما إلى البغي والعدوان والتعدي على حقوق الأبرياء.
وبناء على عقيدتهم المادية وتنكرهم لكل ما هو إلهي وغيبي ظهرت موجات من الإلحاد؛ أعلنت الحرب على الدين بدعوى نبذ التخلف والسعي إلى التطور والسير إلى الأمام، والتخلص من كل ما يحول دون هذه الحركة.
وكم كرر بعض المتطرفين العلمانيين هذه العبارة وطاروا بها فرحا، ظنا منهم أنهم أتوا بما لم يأت به الأوائل؛ مع العلم أن كلامهم ما هو إلا تكرار واجترار لما قاله قديما أعداء الرسل وجاحدوا النبوة.
ورحم الله الشيخ محمد الغزالي إذ قال في كتابه (قذائف الحق) ردا على هذه الشبهة: (ربما اتصل بهذه التهمة المتهافتة تصور البعض أن الدين رباط مع الماضي، وأن التطور ينافيه.
ونتساءل نحن: ما هذا التطور؟
إن الإلحاد ليس تطوراً، بل هو ترديد لكفر الصغار من جهلة القرون الأولى.
من ألوف السنين وقفت قبيلة عاد من رسولها موقفاً كأنما لخصت فيه كل ما يقال في هذا العصر على ألسنة الشطار، من دعاة الإلحاد: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ، إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ}. المؤمنون:35-37.
إن التحلل من قيود الدين ليس تجديداً ولا ابتكاراً بل هو خضوع للغرائز الدنيا التي أنامت ألوف الخلعاء والخبثاء من عشرات القرون وجعلتهم يحيون وفق شهواتهم وحدها! فأي ارتقاء في هذا المسلك الرخيص…
إن وصف الإيمان بأنه حركة رجعية، والإلحاد بأنه حركة تقدمية وصف كاذب، فالكفر قديم قدم الغرائز الخسيسة والأفكار السفيهة. وتاريخ الحياة يتجاور فيه الخير والشر والصلاح والفساد؛ فمن قال: “إن الإيمان طبيعة أيام مضت وانتهى دورها، وأن الكفر يجب أن يفسح له الطريق” فهو دجال..) اهـ.
فالتنصل من هداية الوحي وتلمس طريق الهدى في غيره لن يقود العقل البشري إلا إلى التخبط في ظلمة الإلحاد والشك والريبة والنكوص عن معرفة حقائق الكون والحياة والإنسان، فـ(كما أن نور العين لا يري إلا مع ظهور نور قدّامه، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة). مجموع الفتاوى 1/6.
فحينما نتحدث عن التدين وضرورته وحتميته لابتعاث مجتمعنا؛ فلا يلزم من ذلك إطلاقا عدم الاستفادة من الحضارة وتطورها والمشترك الإنساني في مجال البحث العلمي والتطور التكنولوجي والعمراني.. وهلم جرا؛ فهذا أمر غير متصور أصلا؛ ولا يجوز ادعاؤه؛ لأن الإسلام كما هو مشتهر عند الغربيين بله المنتسبين إلى الإسلام؛ دين يدعو إلى التفكر والبحث العلمي والتطور لخدمة الإنسان؛ والمسلم كلما ازداد علما بالحقائق الكونية ازداد تبصرا ويقينا بالآيات الشرعية.
فقبل نحو سنة من اليوم أسلم الهولندي (أرنولد فاندورن) منتج فيلم “فتنة” المسيء إلى الإسلام وإلى رسول المسلمين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصرح وهو يؤدي فريضة الحج في هذه السنة أن خجله تضاعف أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث جال بخاطره حجم الخطأ الكبير الذي وقع فيه قبل أن يشرح الله صدره للإسلام.
وقال المسلم الجديد الذي كان ينتمي إلى حزب الحرية الهولندي المتطرف والمعادي بشدة للإسلام والمسلمين، أنه وجد في الإسلام ما كان يصبو إليه ويفتقده في حياته السابقة، مبينا أنه عندما يتذكر حياته السابقة يرى أنه كان “كمن يقبض الريح”.
فكم عدد القابضين على الريح الذين يعيشون بين أظهرنا اليوم، يحسبون أنهم على شيء وأفئدتهم هواء؛ من الحيرة والشك والريبة، كلامهم لا يعدو أن يكون ثرثرة وترويجا للباطل؛ شغلوا الناس بترهاتهم ولم يكلفوا أنفسهم مجرد الاطلاع على مراجع رئيسة لدين يناصبونه العداء، فهم لا يزالون إلى اليوم يكبتون صوت الحق في أعماق نفوسهم، ويصرون على تدنيس فطرتهم.