الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه.
كما أثّرَ المنطق الصوري الأرسطي قديما على جميع ميادين العلم، فقلّ أن يسلم مجال معرفي من استعمال مكثف لآليات الخطاب المنطقي؛ فإن الأنثوية أثرت على مجالات فكرية وحضارية متعددة ومختلفة، فلم يعد بالإمكان التنصل من الخطاب الأنثوي ومن شبكة التأويل الأنثوية في أي ميدان حضاري في الغرب المعاصر.
ففي مجال القيم العامة، يلاحظ -خلال العقود الأخيرة- تحول تدريجي للمجتمع نحو قيم الأنوثة، وشيطنة لقيم الذكورة، في ما صار يسمّى في بعض الأدبيات المحافظة بـ”تأنيث المجتمع”؛ وذلك كله تحت القصف الأنثوي المنهجي والمتواصل، الذي استغل اندحار المنظومات القيمية الصلبة، في الحضارة الغربية الحديثة.
وقد كان لهذا التأنيث أثره البالغ على الفرد أولا، سواء في ذلك الرجل الذي صار مطالبا بإبراز الجانب المؤنث فيه، والذي سترتْه عن الأنظار قرون متطاولة من الذكورية المتطرفة التي تحتقر الأنثى؛ أو المرأة نفسها، التي فقدت أنوثتها في معترك العمل خارج البيت، وفقدت استنادها الفطري على الرجل، الذي صار – بمقتضى الإيديولوجيا الأنثوية – خصما منافسا في أفضل الأحوال، وعدوا لدودا يجب إسقاطه والانتصار عليه في معركة لا ترحم، في أسوئها!
ثم كان الأثر على الأسرة ثانيا، التي أرادت لها الأنثوية أن تنفصل عن النظام “الباطرياركي” التقليدي، الذي تقسم فيه الأدوار بين الأب والأم والأطفال، بما يوافق الفطرة والواقع البيولوجي والاستعداد النفسي. ولكن الأنثوية الظافرة – المتخصصة في التفكيك والهدم فقط – لم تقدم بديلا لهذا النظام سوى أسر مهشّمة:
- يغيب فيها الأب فعليا (في الأسر أحادية الوالد إما بسبب هروب الرجل من مسؤولياته المادية والمعنوية، وإما بسبب الطلاق واحتفاظ الأم بحضانة الأطفال) أو رمزيا (حين يقتصر حضور الأب على تكرار دور الأم بطريقة فرعية ثانوية، دون أدنى تقديم للمكمّل الذكوري الضروري لتربية الأطفال)؛
- ويُطلب فيها من الأم أن تكون امرأة ورجلا في الآن ذاته، فتسيطر على قرارات الأسرة، وتسيّرها وفق تصور الأنثى، وإن كان ذلك مخالفا لاستعدادها الفطري، وعلى حساب راحتها البدنية والنفسية؛
- وينشأ فيها الأطفال عمليا بوالدٍ واحد هو الأم، وفي ضمن ذلك تدليل مبالغ فيه، وصعوبة في التعامل مع الحرمان، وعسر في الانضباط بالقوانين، ونبذ لقيم الجهد والعمل، وغير ذلك.
ووصل الأثر إلى المدرسة ثالثا، فصار التلميذ فيها – بمقتضي قيم التأنيث – سيدا متحررا من الواجبات، تُلتمس له الأعذار، وتعمل المنظومة التربوية كلها في خدمته، ولا يُطالب باحترام المدرّس ولا طاعته، لانتماء تلك المعاني للثقافة “الباطرياركية” البائدة.
وسيطرت الإيديولوجيا الأنثوية على الفن والإعلام، ففرضت جميع تصوراتها بالقوة الناعمة، التي تلاحق الناس في كل مكان، حتى إنها لتدخل معهم إلى مخادع نومهم، لتشكل أفكارهم، وتبني آراءهم، وتحصنهم ضد أي رأي مضاد مهما تكن قوة حجته.
وانتقلت الأنثويةُ إلى محاولة تغييرِ اللغة لتصبح ملائمةً للتوجه المساواتي الجديد بين الجنسين، وتتخلى عن غبار الذكورية التي سيطرت عليها لقرون عديدة؛ وإلى نخل الأدب القديم، لاستئصال الجراثيم الذكورية المتغلغلة فيه، ونصب مشانق معنوية للأدباء الذين لم يتفطنوا في زمنهم إلى وجوب موافقة هذه الإيديولوجيا الحادثة اليوم!
وفي مجال الاقتصاد، وضعت الأنثوية يدها في يد الرأسمالية المسيطرة، ولعبت لعبة السوق فأخضعت المرأةَ له في مجالات ما كان يحلم بها من قبل. وهكذا التقى – في مفارقة فكرية عجيبة تفرد بها عصرنا -: اليسارُ الأنثوي التقدمي المتحرر مع أرباب العمل وسدنة معبد الرأسمالية المعولمة، والتقى اليمين المحافظ المعادي للأنثوية مع المرأة العاملة المقهورة (ولم يعد من الغريب اليوم أن نرى ميل أصوات الطبقة العاملة إلى اليمين، بعد أن فرّط اليسار المؤدلج في رسالته التاريخية).
وتوّجت السياسةُ ذلك كله، من وجهين اثنين: أولهما النضال المستميت لإقرار التساوي العددي في المناصب السياسية، ولو على حساب الاستحقاق؛ والثاني التسارع إلى إقرار القوانين التي تضمن تحقيق أصول الأنثوية على أرض الواقع، بدءا بالقوانين التي تجرّم الجنسوية وجميع ألوان التفريق بين الجنسين، حتى الفطري والطبيعي منها، مرورا بإباحة الإجهاض وجعله حقا من حقوق المرأة الأساسية، انتهاء بإباحة الزواج المثلي، وتذويب الفرق الجنسي في بوتقة نظرية النوع، وفتح الباب لأصناف الهويات الجنسية الغريبة المختلفة.
وعلى الرغم من هذا الانتشار الأفقي والعمودي الذي لا حدود له، فلا تزال الأنثوية تناضل من أجل المزيد، وتتفنن في ألوان النضال بين السياسي والحقوقي والإعلامي، وحتى الاستعراضي (أنثوية “الفيمن” مثلا)!
إن العلاقةَ بين صعود الأنثوية ونزول الدين علاقةٌ طردية واضحة، فإن انحرافات الأنثوية لم تبرز إلا في بيئة طلّقت الدين، وأبعدته عن تأطير الدولة والمجتمع، وحصرته في الدائرة الفردية.
وقد ذكرنا من قبلُ أن الأنثويةَ العصرية منبثقةٌ من المناخ الفكري الذي أنجبتْه ثورة ماي 68، والذي كان أبرز “نجاحاته”: تفكيك القيم الدينية. وقد بقيت الأنثوية منذ ذلك الحين، تعُد الدينَ من ألدّ أعدائها، وترى إسقاط هيبته من النفوس مطلبا محوريا ضمن لائحة مطالبها. ومن أبرز المظاهر الدالة على ذلك بشكل فجّ واستعراضي، تحركات أنثويات “الفيمن” ضد أماكن العبادة، والتجمعات الدينية.
ولأجل هذا الخصام بين الفريقين، فإن أفضل من يكشف شبهات الأنثوية في الغرب، ويبرز تناقضاتها، هم المفكرون المحافظون المتدينون (الكاثوليكيون خصوصا في أوروبا، والبروتستانتيون في أمريكا)، الذين لهم جهود ضخمة في هذا الباب، وإن كانت مهمّشة إعلاميا (كما نجد ذلك في قضايا الحرية الجنسية، والإجهاض، وزواج المثليين، وعمل المرأة، ونحو ذلك).
وكما نستفيد اليوم في مجال مقاومة الإلحاد من كتابات المتدينين الغربيين، فإن من المشروع المطلوب أن نستفيد في مجال مقاومة الأنثوية من كتاباتهم، على الأقل من باب “الحكمة ضالة المؤمن”، مع ما لا بد منه من التنقيح وإعمال للحس النقدي.