مكانة العقل في فكر المدرسة السلفية في المباحث الكلامية (1) ذ.طارق حمودي

مكانة العقل وفضله
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد:
فللعقل مكانة لا ينبغي أن يخالف فيها أحد، وقد وجه القرآن الكريم إلى وجوب الاهتمام والاحتفاء به، واستعماله في أخطر المباحث وهي التوحيد وأدلة الوجود الإلهي.
وأما مكانته في الإسلام فقد تولى بيانها ثلة من الأفاضل في مؤلفات خاصة، أشار إلى ستة من أهمها الدكتور حسني زينة في كتابه (العقل عند المعتزلة) منها كتاب (الإسلام والعقل) للدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله.
وليس قصدي التفصيل في ذلك؛ إنما قصدي ما هو أخص منه إن شاء الله، وهو  مكانته في فكر مدرسة من مدارس الإسلام وهي المدرسة السلفية.
وحسبي من ذلك أن كتاب الله تعالى أعلى من قدر النظر ودعا إلى التأمل وأمر بالتدبر في بديع خلقه الذي حوى نواميس وقواعد حركة الكون المنظمة لسير التاريخي، وهو أهم مصدر لتوجيه العقل ووضعه في إطاره الصحيح زيادة على التوجيه القرآن وتسديده.

فرع: عدم صحة حديث صريح  في فضله
ورغم تكاثر وتواتر الآيات القرآنية على فضل العقل والتفكر والتفكير والتأمل والنظر إلا أنه لم يصح مما ورد في فضله حديث واحد إلا عن طريق الإشارات والتنبيهات كإشارات النبي صلى الله عليه وسلم إلى قياس العكس في إثابة الله لمن يأتي شهوته في حلال، والقياس الحملي في حرمة تعاطي المسكر وغيره في كثير من الأحاديث.

ما المقصود بالمدرسة السلفية؟
المقصود بالمدرسة السلفية المنظومة الفكرية لأتباع منهج السلف من القرون الثلاثة؛ وقد كان منهم الأئمة مالك[1] والشافعي وأحمد وغيرهم كثير قبلهم وبعدهم.. ويسمون أهل الحديث وأهل الأثر. وسماهم بعضهم أهل التسليم والتفويض  في مقابل أهل التوفيق.. وسماها علي سامي النشار: مدرسة الفقهاء!
 
– مصادر التلقي عند المدرسة السلفية
لابد لكل مذهب أو فرقة من مصادر للتلقي، بها تتميز، ومنها تصدر في طروحاتها ومبادئها ومواقفها، وقد حاول العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله أن يلخص مصادر الإسلاميين  مجملة في أربعة مصادر: العقل والكشف والشرع والفطرة وجعل الأوليين خلفيين والثانيين سلفيين أي:

1- الشرع
والمقصود به كتاب الله تعالى وصحيح سنته عليه الصلاة والسلام والإجماع الدال على أحدهما كما يقول الأصوليون خصوصا في مسائل المعتقد. ولست أطيل في هذا وإن كان يحسن التوسع فيه قليلا في ما يخص حجية خبر الآحاد في العقائد عندهم خلافا لغيرهم.

  2- الفطرة
وأما الفطرة فهي أصل الخلقة لقوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم:30). ويصل الأمر بالمعلمي إلى أن يجعلها مرادفة للعقل الصريح الذي يشترك فيه الجميع أو يضيفه أحيانا إليها كقوله: (العقل الفطري)[2]. وأحيانا (العقل العادي) ويقصد به العقل في أصل خلقته بدون مشوشات أو تأثيرات خارجية.
ومن الطريف الإشارة إلى أن الدكتور طه عبد الرحمن يصف هذا العقل بـ(العقل المسدد) كما في كتابه (العمل الديني وتجديد العقل).

حقيقة العقل في فكر المدرسة السلفية:
– (ع ق ل) كما يقول ابن فارس رحمه الله في معجم مقاييس اللغة: (أصل واحد منقاس مطرد، يدل عُظْمُه على حُبْسَة في الشيء أو ما يقارب الحبسة، من ذلك (العقل) وهو الحابس عن ذميم القول والفعل).
وحقيقة العقل من المباحث الكبرى التي اختلفت فيها الفرق بين مؤله ومهدر، واختار السلفيون له معنى خاصا حاولوا استخراج أسسه من الكتاب والسنة.
قال المعلمي:
(كلمة “العقل” وقع فيها التدليس، فهناك العقل الفطري الصريح الذي لا التباس فيه، وهو الذي أعده الله تعالى ليبنى عليه الشرع والتكليف وهو الذي كان حاصلاً للأمم التي بعث الله تعالى فيها رسله وأنزل فيها كتبه، وهو الذي كان حاصلاً للصحابة ومن بعدهم من السلف، فهذا هو الذي يسوغ أن يقال: إن ما أثبته قطعاً فهو حق، ودون ذلك نظر متعمق فيه، مبني على تدقيق وتخرص ومقاييس يلتبس فيها الأمر في الإلهيات ويشتبه ويكثر الخطأ واللغط)[3].
فيظهر من كلام المعلمي أن العقل نوعان: عقل فطري صريح وعقل متكلف متعمق.
أما الأول فهو العقل الذي يعتمده أتباع المدرسة السلفية مستندين إلى منهجية القرآن والسنة في استعمال قياساته المنتجة الصحيحة وأما العقل المتعمق فيما لا يعنيه ولا يقدر على الغوص فيه فهو المرفوض عندهم..وهو أصل المتكلمين في مقالاتهم ومنهجهم العام، وهو الذي جعله الرازي المتأثر بالفكر الفلسفي والاعتزالي حاكما على النقل.. ورد عليه ابن تيمية في (در تعارض العقل والنقل).

موقف المدرسة السلفية من المنطق اليوناني
المنطق اليوناني أس علم الكلام ومبدؤه، ولأجل ذلك توقف كثير من السلف الصالح وأتباعهم في الأخذ به وتعلمه ورأوا فيها معينا على علم الكلام، وردوه بسبب مصدريته اليونانية، لكن آخرين من المنتسبين للمدرسة السلفية رأوا فيها طريقة لتوجيه العقل وضبط حركته، لكنهم انتقدوه في شكله اليوناني وقللوا من شأنه.
وإباحة بعض السلفيين لاستعماله في العقيدة كان لاعتبارات موضوعية علمية، فقصدوا به المنطق الذي أسس بنيانه القرآن والسنة، ومن أشهر من أباحه شيخ الإسلام رحمه الله بعد تصحيح مقدماته وتحريره من سلطة النسبة اليونانية الجامدة على مجرد عمليات رياضية معقدة، والاستغناء عنه بالاستدلالات المباشرة، وقد انتقد تجاوزاته ومشكلاته في كتابين هما (نقض المنطق) و(الرد على المنطقيين)!
ومثله الشوكاني رحمه الله -المحسوب على المدرسة السلفية- إلى درجة أن نسبوهم إليه فقالوا عنهم: شوكانيون. فإنه قال: (فإن العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي.. يستفيد به الطالب مزيد إدراك، وكمال استعداد عند ورود الحجج العقلية عليه، وأقل الأحوال أن يكون على بصيرة عند وقوفه على المباحث التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد من المباحث المنطقية كما يفعله كثير من المؤلفين في الأصول والبيان والنحو)[4].
ولاحظ قوله: (على الوجه الذي ينبغي) لتعرف التحرز المقصود به.
وتجد كثيرا من علماء هذه المدرسة قديما وحديثا يستعملون مصطلحاته كالعلم والأخص والأعم، وممن استعمله منقحا مصححا العلامة السفاريني الحنبلي في لوامع الأنوار البهية وعلامة الشام جمال الدين القاسمي في دلائل التوحيد وقال: (إذا استعمله على وجهه وقع عنده العلم بالمنظور فيه)[5]!

—————————————
[1]  وقد كانت عقيدة أهل المغرب  قبل تغلب  محمد بن تومرت على مذهب مالك في الفقه والعقيدة زمن المرابطين كما قال الدكتور جمال البختي في (السلالجي/ص14و28) والأستاذ عبد المجيد النجار في (فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب /ص17/دار الغرب) فإنه قال: (لم يكن سائدا بإفريقية منذ سحنون فقه مالك فحسب, بل ومذهبه في العقيدة أيضا) بل ذهب الدكتور عبد السلام الطاهري إلى أمر أدق من هذا فقال في (الفكر الإصلاحي بالمغرب/ص344): (إن الخطاب السلفي المغربي تبعا لظروف نشأته يرتبط كما قلت سابقا بالمذهب المالكي ارتباطا أصيلا, وهذا الارتباط جعل السلفيين المغاربة لا يخرجون عن دائرته)
[2] ولا بد هنا من التفرقة بين هذا العقل الفطري وبين الذي يقصده الأنثروبولجي الفرنسي لوسيان ليفي بريل Lucien Lévy-Bruhl من العقل البدائي La Mentalité primitive فإنه يقصد به العقل الفوضوي الذي لا يضبط تفكيره شيء كما زعم, وقد خالفه ثلة من بني جلدته[2] وبيان هذا له أهله.
[3]  التنكيل (2/346)
[4] أدب الطلب ومنتهى الأرب ( ص195/دار ابن حزم)
[5]  دلائل التوحيد (ص:14)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *