انتبه يا عبد الله فإنك في بيت الله احتجاز مكان في المسجد نور الدين درواش

 

سبق في الحلقة السابقة بيان عدم مشروعية توطن مكان مخصوص في المسجد….

وأولى بالنهي من توطن مكان خاص في المسجد؛ حجز مكان خاص ومنع الغير منه، بوسيلة من الوسائل كفرش سجاد أو وضع كرسي، أو عصا أو غرض من الأغراض الشخصية. فهذا لا يجوز، لأنه اعتداء على المسجد، واستئثار بجزء منه بغير حق، وغصب للمكان طيلة مدة الحجز، والحريص على المسجد يسابق غيره إليه فعلا، ولا يحجز مكانا بشيء من الجمادات فإن “السبق بالأجسام، لا بالأوطئة ‌والمصليات”([1]).

قال ابن المنذر: تعليقا على حديث عبد الرحمن بن شبل ا:” من سبق إلى مكان من المسجد فهو أحق به مادام ثابتا فيه، فإذا زال عنه زال حقه، إذ ليس أحد أحق به من أحد، قال الله ﻷ:﴿وَأَنَّ اَ۬لْمَسَٰجِدَ لِلهِ ﴾ [الجن: 18] الآية، وقال:﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اَ۬للَّهِ مَنَ اٰمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِ ﴾ [التوبة: 18]” ([2]).

وقد اشتد نكير العلماء عبر التاريخ على من يحجز الأماكن في المساجد بغير وجه حق.

قال ابن الحاج: “فإن ‌بعث ‌سجادته إلى المسجد في أول الوقت أو قبله، ففرشت له هناك وقعد هو إلى أن يمتلئ المسجد بالناس، ثم يأتي فيتخطى رقابهم فيقع في محذورات جملة منها غصبه لذلك الموضع الذي عملت السجادة فيه؛ لأنه ليس له أن يحجزه وليس لأحد فيه إلا موضع صلاته”([3]).

وقال الشربيني: “‌لو ‌بسط ‌شخص ‌شيئا في مسجد مثلا ومضى، أو بُسِط له كان لغيره تنحيته”([4]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ليس لأحد أن يتحجر من المسجد شيئا، لا سجادة يفرشها قبل حضوره ‌ولا ‌بساطا ولا غير ذلك. وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه؛ لكن يرفعها ويصلي مكانها؛ في أصح قولي العلماء. والله أعلم”([5]).

وقال: “ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين؛ بل محرم. وهل تصح صلاته على ذلك المفروش؟

فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان، ومن صلى في بقعة من المسجد مع منع غيره أن يصلي فيها: فهل هو كالصلاة في الأرض المغصوبة؟

على وجهين. وفي الصلاة في الأرض المغصوبة قولان للعلماء..”([6])

وقال أيضا: “ليس لأحد أن يفرش شيئا ويختص به، مع غيبته، ويمنع به غيره. هذا غصب لتلك البقعة، ومنع للمسلمين مما أمر الله تعالى به من الصلاة. والسنة أن يتقدم الرجل بنفسه وأما من يتقدم بسجادة فهو ظالم ينهى عنه ويجب رفع تلك السجاجيد ويمكن الناس ‌من ‌مكانها”.([7])

وقال عبد الرحمن بن سعدي: “إن التحجير في المساجد، ووضع العصا، والإنسان متأخر في بيته، أو سوقه عن الحضور لا يحل ولا يجوز؛ لأن ذلك مخالف للشرع، ومخالف لما كان عليه الصحابة، والتابعون لهم بإحسان”.([8])

ومن مفاسد آفة حجز الأماكن في المسجد غير ما سبق؛ أنها سبب لتأخر الحاجز، ما يوقعه في تخطي الرقاب، ثم هي سبب إثارة العداوة والشحناء والأحقاد بين المصلين بسبب هذا الفعل.

ولا يدخل في النهي؛ من شغل مكانا بالجلوس للذكر أو العلم او قراءة القرآن أو الصلاة، أو غيرها من العبادات، ثم احتاج للانتقال لمكان آخر لجلب ماء للشرب، أو تجديد وضوء أو قضاء حاجة أو ما شابه… فهذا يحق له أن يحجز المكان لأنه انتقل عنه لعارض وسيعود إليه.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: «‌مَنْ ‌قَامَ ‌مِنْ ‌مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»([9])

فيُفهم من هذا الحديث أن الرجوع للمجلس بعد القيام عنه لداع عارض يجعل للراجع الأسبقية والأحقية وهذا لا يدخل في الحجز الذي ذكرنا سابقا.

قال أبو العباس القرطبي: “هذا يدلّ على صحَّة القول بوجوب ما ذكرناه من اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه؛ فقَبلَه أحرى وأولى”([10]).

وقال الزركشي بدر الدين: “من سبق إلى موضع من المسجد فجلس فيه للصلاة لم يثبت له حق الاختصاص به في صلاة أخرى بعدها، بل من سبق بعد إلى ذلك الموضع فهو أحق به وليس لغيره إزعاجه منه…. فإن فارقه قبلها، فإن لم يكن لعذر بطل اختصاصه، وإن كان لعذر كإجابة داع، أو سبق رعاف، أو تجديد وضوء أو قضاء حاجة، وعاد في بقاء حقه وجوه، أحدها: لا. كما لا يبقى إذا عاد لصلاة أخرى، وأصحهما”[11]).

 

 

 

([1]) المغني لابن قدامة المقدسي (3/234).

([2]) الأوسط (5/118).

([3]) المدخل (1/133).

([4]) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (3/512).

([5]) مجموع الفتاوى (22/193).

([6]) مجموع الفتاوى (22/189).

([7]) مجموع الفتاوى (24/216).

([8]) الفتاوى السعدية (ص: 175).

([9]) إعلام الساجد بأحكام المساجد (ص: 391).

([10]) المفهم (5/511).

([11]) المفهم (5/511).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *