المفاهيم الجديدة للثقافة المعاصرة عبد المغيث موحد

عندما يتكلم البعض عن حقيقة سيطرة الوافد الثقافي الغربي على عقلية جزء كبير من أهل المبيت، ساكنة الجغرافية الإسلامية العربية، وأن هذه الحقيقة هي صورة مختزلة من صور الاحتلال المنمق بنياشين المفاهيم الجديدة للمدنية المتسلطة، والذي استطاع أن يحل بدهائية ومكر كبير محل الاحتلال السافر، الذي تميز ببهاضة تكاليفه المادية والبشرية، ومحدودية تأثيره في الأوساط المقاومة له ببسالة عقدية ومقاصدية أثبت لها التاريخ كثيرا من التفوق والغلبة، فإن هذا البعض قد لا يعني بالضرورة أن الوافد الثقافي الغربي هو حصرا ذلك التراث العلمي المدخون، الذي عبر المحيطات بإرساليات مكثفة وموجهة توجيها إستراتيجيا، هدفه ضرب تركة الأسلاف النفيسة في مجال الطب والفلك والمنطق والرياضيات، إذ البديل عن موضوع القصف في هذه الحالة هو بالضرورة طب وفلك ومنطق ورياضيات، فالبديل هنا نفعه أكبر من إثمه، وهذا ولا شك عديم الجدوى قاصر الفعالية في تحقيق المراد من هذا القصف، كما أن هذا البعض لا يمكنه أن يختزل هذا الوافد في المسطور من الروايات والأشعار، والمترجمات النثرية التي حلت في فترة معينة من سيرورة تاريخنا الفكري محل المعلقات الشعرية، والنصوص الأدبية والتاريخية الهادفة.

ولعل قراءة الواقع بوقفة صادقة يحصل معها شكل من أشكال الفراسة الإيمانية يجيبنا عن ماهية هذا الوافد المستغرب الخطير، ويسعفنا حتى نضع سبابة التمريض على موضع الداء الحقيقي، وحتى لا يحصل منا تحجير الواسع واستصغار المصائب التي طغت ملامح فسقها على الساحة الثقافية ببلادنا الإسلامية.
فإلى الأمس القريب كانت الثقافة اصطلاحا، هي ذلك الأدب الهادف المنضبط مع مقاصد الشرع الحنيف، وكان الرجل المثقف هو ذلك المرء النقي الفكر، السوي السيرة، البديع المعرفة، أما اليوم وما أدراك ما اليوم! بضاعة مزجاة والكائل والمكيل في الوزر سواء، ومع هذا الكل المركب يبدو وكأن الزمن محقت بركته، بل سرقت منا آليات استغلاله استغلالا مرشدا يعود على فردنا ومجتمعنا بالخيرية التي من شُعَبها تخليق أمانة الحياة، وكم يبدو هذا طوباويا متفلتا من عقال الواقع عند الكثير من الذين بات همّهم إشباع الرغبات الترابية، وإغراق سفينة الركب في لجة الرذيلة الفاحشة المتفحشة؟
وأي فحش أكبر من أن يصير للثقافة مرادفا، تمثلاته مهرجانات الأغاني الساقطة والمراقص الراعنة، التي انتشرت منصاتها، وعلت سرادقاتها في كل باحة من باحات الوطن، تأكل المال العام كما تأكل النار الهشيم؟
وأي فحش أكبر من أن يصير البحث في فن ما يسمى بالعيطة مدركا من مدارك الرقي الثقافي، ومظهرا من مظاهر صون التراث الذي يحفظ للأمة ذكرها بين الأمم؟
وأي فحش أكبر من أن يصير المثقف في أدبيات الرمزية، هو ذلك الكهل المتصابي الذي تناثر شَعَر دوائبه بغزارة يشوبها سوء التوزيع وعدم الترجيل، ويلبس ما يجعله توأم مجنون؟
ولست أدري أين نستطيع أن نخندق في باب هذه الرمزية، أولئك الشباب حاملي شواهد ثقافة “الهيب هوب”، أصحاب الملابس الفضفاضة التي انحسر حزام الملبوس تحت خصر اللابس من أهل هذه الثقافة الجديدة، التي زرع لغمها وبذر شوكها من كانوا يتشدقون بسرابية المشاريع الإصلاحية العملاقة، التي من شأنها أن تقيم صلب اقتصاد البلاد، وأن تسمو بروح المواطنة عبر مشاريع دينية، وأخرى اجتماعية خلاقة، كفيلة باجتثاث منابع التطرف الحقيقي..
وانقاد معشر الشباب الهائم بين دروب الحياة وعقباتها الكئود، فلما فتح لهم باب التمكين، تناسوا أفكار اليسار الماركسية واليمين الليبرالية، وباعوا للغريب باسم الخوصصة الأخضر واليابس، وضاربوا مع هذا الغريب في الماء والبرد والثلج، فكان من سيئات هذه المضاربة فوزهم بسهم من الفراغ أتاح أمامهم فرصة إقامة العشرات من المهرجانات المتفسخة، واستقدام الأطر والمدراء الأجانب الذين يتقنون فن نصب المنصات الحداثية، وعمليات ضبط المؤثرات الضوئية والمكبرات الصوتية، التي تحمل عبر الأثير جلبة الاختلاط النكد، وصلصلة ضيوف “الشرف” من نجوم الأغنية الغربية المتسفلة في النقصان والنقيصة، كأغاني فرقة “كوليغاس” الاسبانية، ونجم اللواطيين “إلتون جون”، وخليط مستحلب من النطيحة والمتردية وجيفة السبع، التي أغدق عليها من صندوق ضرائب العَرَق العام، في محاولة بئيسة لإغراق المجتمع بكل أطيافه في الرذيلة باسم الفضيلة، وفي الزيغ باسم الهدى، وفي السبات باسم الصحوة، وفي الظلامية المقيتة باسم الحداثة والمعاصرة ومحاربة الأفكار الهدامة، التي ما هي إلا محض سوء فهم عن مراد الله ورسوله، وتقويم اعوجاجها الموكول شرف أمره حصرا وقصرا على ورثة الأنبياء أهل الحل والعقد، الذين أخذ الله عليهم ميثاق تبليغ الدين وتصفيته من شوائب البدع المردية، وأدران المحدثات التي تقدح في صفاء العروة الوثقى، وتكدر نقاوة الهدي النبوي الواجب الإتباع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *