الإيمان له شعب كما قال عليه الصلاة والسلام: “الإيمان بضع وسبعون شعبة..” ومن شعبه حسن الظن كما قال ابن حبان في رودة العقلاء, وقال كذلك رحمه الله: “العاقل يحسن الظن بإخوانه, وينفرد بعمومه وأحزانه، كما أن الجاهل يسيء الظن بإخوانه ولا يفكر في جناياته وأشجانه”.
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ”.
وقال عليه الصلاة والسلام: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث” متفق عليه.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: “نهى الله تعالى المؤمن أن يظن بالمؤمن شرا”.
وقال الزجاج رحمه الله: “هو أن يظن بأهل الخير سوءا”.
وقال الصنعاني في شرح الحديث: “المراد بالتحذير التحذير من الظن بالمسلم شرا”.
فالواجب إذن حسن الظن بالمؤمنين “فحسن الظن بأهل الدين حسن” كما قال ابن مفلح في الآداب الشرعية.
وروى أبو داوود والحاكم وصححه على شرط مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: “حسن الظن من حسن العبادة”.
وقال القرطبي رحمه الله في الجامع: “قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة”.
وقال رحمه الله: “ومحل التحذير والنهي تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك.. وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها أن كل مالا تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب وذلك إذا كان المظنون به مما شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر, فظن الفساد به والخيانة محر بخلاف من اشتهر بين الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث”.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: “باب ما يكون من الظن”, ثم روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا” قال الليث بن سعد: كانا رجلين من المنافقين”.
ولقد ذكر القرطبي رحمه الله عن أكثر أهل العلم أن ظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز وأنه لا حرج بظن القبيح بمن ظاهره قبيح.
قال ابن هبيرة رحمه الله: “لا يحل والله أن يحسن الظن بمن ترخص، ولا بمن يخالف الشرع في حال”.
بهذا يتبين أنه ليس كل سوء ظن مذموم, ولذلك قال أبو يعلى في تفسير الآية السابقة: “هذه الآية تدل على أنه لم ينه عن جميع الظن”.
وقال القرطبي في الجامع: “الظن في الشريعة قسمان محمود ومذموم…بدلالة قوله تعالى: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)”.
وقد ذكر جمع من أهل العلم انقسام الظن إلى أربعة أقسام كأبي يعلى والزمخشري والصنعاني في آخرين وهي:
ظن واجب: وهو حسن الظن بالله تعالى.
ظن حرام: وهو سوء الظن بالله تعالى وبكل من ظاهره العدالة من المسلمين.
ظن مندوب: وهو حسن الظن بمن هو ظاهره العدالة من المسلمين.
ظن مباح: من ذلك سوء الظن بمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالخبائث.
وللظن حالتان كما قال القرطبي في الجامع:
الحالة الأولى: حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها فأكثر الأحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن.
الحالة الثانية: أن يقع في النفس شيئ من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده فهذا هو الشك فلا يجوز الحكم به.
وقد اختلف الأهل العلم في من ظن بأخيه المسلم السوء ولم يعد ذلك القلب، بمعنى لم ينطق بذلك فهل يأثم المرء عند ذلك أم لا؟
نقل ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير عن المفسرين أن الإثم يحصل في حالة النطق فإن لم يتكلم به المرء فلا بأس, ونقل عن بعضهم أنه يأثم بمجرد الظن وإن لم ينطق.
والراجح القول الثاني لأن الظن عمل القلب فسوؤه يلحق الإنسان الإثم كغيره من أعمال القلوب السيئة، مع العلم أن الكلام عن تقرر ذلك في النفس دون ما يعرض ولا يستقر.
قال النووي رحمه الله: “والمراد التحذير من تحقيق التهمة والإسرار عليها وتقررها في النفس دون ما يعرض ولا يستقر فإن هذا لا يكلف به”.
فائدة أولى: الاحتراز وسوء الظن
قال ابن القيم رحمه الله: “والفرق بين الاحتراز وسوء الظن أن المحترز بمنزلة رجل قد خر بماله ومركوبه مسافرا فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق وكل مكان يتوقع منه الشر وكذلك يكون مع التأهب والاستعداد وأخذ الأسباب التي بها ينجوا من المكروه, فالمحترز كالمتسلح المتدرع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعد له عدته فهمه في تهيئة أسباب النجات ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به وكلما ساء به الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب.
وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه، فهم معه أبدا في الهمز واللمز والطعن والعيب والغض، يبغضهم ويبغضونه, ويلعنهم ويلعنونه, ويحذرهم ويحذرون منه.
فالأول يخالطهم ويحترز منهم, والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم.
فالأول داخل فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض”.
فائدة ثانية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ..”.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية السالفة: “يقول الله تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله، لأن بعض ذلك يكون إثما محضا فليجتنب كثيرا منه احتياطا”.
فائدة ثالثة: “..فإن الظن أكذب”
قال الصنعاني رحمه الله في سبل السلام: “قوله صلى الله عليه وسلم (فإن الظن أكذب الحديث) سماه حديثا لأنه حديث نفس، وإنما كان الظن أكذب الحديث لأن الكذب مخالفة الواقع من غير استناد إلى أمارة، وقبحه ظاهر لا يحتاج إلى إظهاره, وأما الظن فيزعم صاحبه أنه استند إلى شيء فيخفي على السامع كونه كاذبا بحسب الغالب فكان أكذب الحديث”.