المرجعية الكونية لحقوق الإنسان ومقررات بكين
نبدأ في هذه المرة من حيث انتهينا في الجولة السابقة وذلك بعد أن تم بيان أوجه الفرق بين مدلول التحضر في الفكر العلماني الذي يكاد ينحصر في الإبداع المادي، وبين مدلول التحضر في الفقه الإسلامي حيث يتسع فيه إلى كل ما يتحقق به التميز الإنساني عن الطابع الحيواني. مما يقرر أن أزمتنا مع العلمانيين هي أزمة مفاهيم، وأزمة دلالة ألفاظ، وأزمة معاني مصطلحات، وبكل اختصار أن أزمتنا معهم هي أزمة مرجعيات.
وهذا يقودنا إلى نتيجة محققة وهي أن استعمال الألفاظ عند العلمانيين يوجب حملها على المراد الحقيقي المؤدي للمطلوب عندهم وفق علمانيتهم، وإلا ظل القارئ تائها عن حقيقة مرادهم، دون أن يستطيع التفرقة بين ظاهر اللفظ وحقيقة المطلوب منه.
فمثلا ماذا يعني قول عصيد مطابقا لما هو كوني؟ في قوله: (نجد درس التاريخ والفلسفة والأدب والإنجليزية والفرنسية في واد، ودرس التربية الإسلامية وحده في واد آخر… هناك صراع يومي داخل المدرسة العمومية بسبب عدم انتباهنا لإشكالية القيم في التعليم لكي نجعلها منسجمة مطابقا لما هو كوني).
وماذا يعني قوله المرجعية الكونية؟ في قوله: (المثال على ذلك النرويج، كيف يدرس الدين في النرويج؟
تمت مطابقته بشكل كامل مع المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، كل ما يتعارض مع هذه المرجعية يقصى من التعليم، إذن هذا هو المرجع).
ما هو مدلول وحقيقة قول عصيد “مطابقا لما هو كوني”، وما هو مدلول قوله: “المرجعية الكونية”؟
هذا السؤال نوجهه أولا لتلك الجموع الغامرة، التي صفقت في غفلة منها لطنين الكلمة ولبريق المصطلح، في نشوة من التظاهر بمظهر التحضر طمعا في أن يحمدوا بما لم يفهموا. دون أن يحذروا انكشاف انخداعهم وافتضاح جهلهم، تماما كالصيد الغافل يستدرج إلى مصرعه بالطعم المغري.
فيا لسخرية الموقف.
نعم عندما نعلم عن طريق عصيد أن التعليم في بلاد النرويج يلتزم بشكل كامل بمقررات المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، علينا أن نكون على علم أو أن نعلم حينها أن النرويج هي من ضمن 183 بلد مُوَقِّع على مقررات مؤتمر بكين. هذا العدد المُوَقِّع هو الذي أضفى على هذه المقررات صبغت المرجعية الكونية البديلة حتى صار يطلق عليها المرجعية العالمية. وهذا كله حتى ندرك أن هذه المقررات والتي صار يطلق عليها فيما بعد بـ”مقررات بكين” هي المقصودة في قول عصيد بالمرجعية الكونية، أو ما هو كوني. وهي عبارة عن مقررات متفرقة على 362 مادة والتي تقع في 177 صفحة.
هي مقررات دعت إلى فتح الطريق على مصراعيه للإباحيّة الجنسيّة، وإلى حرية الإجهاض، وإلى الترويج لفكرة حق الإنسان في تغيير هويته الجنسية؛ من ذكر إلى أنثى ومن أنثى إلى ذكر. كما دعت إلى الاعتراف رسمياً بالشواذ والمخنثين، وإدراج حقوقهم الانحرافية ضمن حقوق الإنسان، ومنها حقهم في الزواج؛ أي زواج الذكر بالذكر، وزواج الأنثى بالأنثى.
كما دعت المقررات إلى حق المرأة في التمتع بالحرية الجنسية مع من شاءت وفي أي سن كانت، وليس بالضرورة في إطار الزواج الشرعي، مما استدعى المؤتمر الدعوة إلى تقليص ولاية الولي وسلطة رب الأسرة على أبنائه، وذلك بسن قوانين يُعاقب بها كل من يعترض على هذه الحرية، حتى ولو كان المعترض أحد الوالدين. حيث دعا المؤتمر إلى التعامل مع المرأة الحامل من سفاح دون مساءلة في حالة إقبالها على وضع حملها، بل تخييرها بين رغبتها في التخلص من حملها عن طريق الإجهاض أو رغبتها في الاحتفاظ به مع إلزام مؤسسات الرعاية الاجتماعية برعايتها، وإن لم ترغب لا في التخلص منه ولا في رعايته، فلها الخيار في أن تدفع به إلى دور الرعاية.
ناهيك عن مقررات حق المرأة في فسخ عقد الزواج، وحقها في السفر بلا قيود، وحقها في إقامة علاقات صداقة مع الرجال خارج نطاق الزوجية، بدعوى مساواتها مع الرجل في المواطنة، والمثير في الوثيقة هو طرحها لهذه المقررات وعرضها لهذه الانحرافات بدعوى تحقيق المساواة وتحت مسمى التنمية وغطاء الديمقراطية.
المرجعية الكونية لحقوق الإنسان والدين العالمي الجديد
لنكن صرحاء، لاسيما بعدما انكشف بعض أمر هذه المرجعية الكونية.
مَنْ مِنَ أولئك المصفقين لقول عصيد يرضى أن يحتكم لمقررات هذه المرجعية؟
ومَنْ مِنَ المصفقات التي ترضى أن تكون مقررات المرجعية الكونية لحقوق الإنسان مرجعا تحتكم إليه في كل أحداث حياتها؟
من منكم من يرضى أن تكون أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته، أو منْ منكن من ترضى لنفسها أن تكون مرضى شهوات الرجال؟
ومن منكم أو من منكن من ترضى أن يكون ابنه أو ابنها شاذا جنسيا؟
ومن منكم أو من منكن من يرضى أو من ترضى لابنتها أن تحمل من سفاح؟
إنها مرجعية كونية لنشر البغاء! إنها مقررات نشر البغاء! أليس كذلك؟؟
لعل القارئ أدرك بعض حقيقة ما ذكرناه في المقال السابق من سر انتشار الفوضى الجنسية في النرويج، بل وانتشار هذه الإباحية الفاضحة في كل من أوربا وأمريكا، وذلك لعله يدرك سر ما وراء مقررات المرجعية الكونية من الشر والشقاء والخراب. إنها بلا شك ثمرة طبيعية نتيجة التزام هذه الدول بتلك المقررات التي يعرضها علينا عصيد تحت مسمى المرجعية الكونية في إطار مخطط إفساد عالمي بكل ما تعنيه كلمة الحرية الشخصية الفردية في دين عصيد،… نعم إنها الحرية لكن بمدلولها في دين المرجعية الكونية لحقوق الإنسان.
وهذا ليس غريبا في حق عصيد وهو يقرر دائما في قذارة فكرية يترفع عنها ذكور البهائم بفطرتهم البهيمية ما يتطابق مع مقررات بكين، كما في قوله مثلا: (هؤلاء الذين يتهجمون من القوى المحافظة على الفنون وعلى الأفلام وعلى الروايات وعلى الشعر، يتهجمون على الخمور ويعتبرون أنه ينبغي أن تصادر إرضاء لهم، يتهجمون على المثليين كما لو أنهم ليسوا بشرا أو أنهم ليسوا مواطنين كاملي الحقوق والمواطنة، ويتهجمون…)(1).. تشدق فيه من الجهالة بالقيم الأصيلة والفطرة السليمة.
ممارسة اللواط تدخل ضمن الحريات الفردية، والممارسون له كاملي الحقوق والمواطنة؟!!
هذا عين ما جاءت به التوصيات ضمن مقررات بكين.
صدق الله العظيم القائل: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾(2).
دعوة مستنكرة ظاهر فسادها، ولا يستحق قائلها أدنى احترام. إلا أن الغريب العجيب أن عصيد في غفلة من غيه لا يشعر معها أنه دون مستوى الإنسانية، بل يحسب بهيميته الفكرية هذه أكثر تطورا وأرقى تحضرا..!! تأمل قوله حيث يتجلى فيه الانحراف من مجرد تلاوته: “وليس مسموحا لأي كان أن يعيد بلدا ما إلى الوراء لكي يظل دون مستوى الإنسانية. أي دون مستوى ما بلغته الحضارة البشرية. هذا ظلم أن تنعم شعوب ما بهذه الحقوق وبهذه الحريات كآخر ما بلغته الحضارة وأن نجعل شعوبا أخرى تعيش الماضي بدعوى الخصوصية..”(3).
يا عجبا، متى كان السماح بممارسة اللواط والدعارة والفحش يجسد أعلى درجة بلغتها البشرية في التطور وآخر ما بلغته الحضارة في التحرر؟!
ومن ثم فإما هو دين الله الذي هو دين الحشمة، والحياء، والعفة، والحصانة، والطهر الروحي، والسمو الفكري، وهذا هو دين الإسلام. وإما هو دين المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، الذي هو دين الانحراف الجنسي والشذوذ والإباحية والزنا والدعارة واللواط والبغاء وارتكاب الفواحش، وهذا دين عصيد. هذا هو مفرق الطريق بين ديننا ودينكم، و لقد ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (4).
ــــــــــــــــــــ
(1) حوارا الحريات الفردية بالمغرب، أنظره على youtube.com
(2) سورة المؤمنون الآية 71.
(3) حوارا الحريات الفردية بالمغرب ، أنظره على youtube.com
(4) سورة الممتحنة الآية 4.