إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت المسلمون والتاريخ عبد اللطيف راحل

إن نبأ ظهور الإسلام هو النبأ الأعظم الذي دوِّن عبر تاريخ البشرية على الإطلاق، فبزوغ فجر رسالته الخالدة كان له أكبر الأثر في تغيير مجريات التاريخ بالاتفاق، كيف لا وهو الدِّين الذي ما كادت تمضي على ظهوره إلا بضعة عقود حتى انتشر في معظم الأرض، فأزال ممالك ظلت قائمة لقرون متوالية، وهيمن على أديان أوغلت في جذور التاريخ بالقِدم، وغَيَّر أحوال كثير من الشعوب والأمم، ليضع القواعد لعالم قوي متراص الأركان هو عالم الإسلام

والمفترض في كل أمة من أمم الأرض أن تعتبر درس التاريخ من أهم دروس التربية اللازمة لأفرادها، فتصوغه بما يتناسب وأداء مهمته التربوية، مع استصحاب القصد لتحقيق الذات في عالم الواقع، وإيجاد حركة إيجابية إبداعية في عالم المنظور، وهي معطيات إذا وجد في الأمة من يُفعِّلها فستكون الخلاصة هي عمارة الأرض بما ينفع الناس
إننا معاشر المسلمين أجدر ألا نتساهل في معرفة التاريخ على وجهه الصحيح، فالأمة التي لا تحرر تاريخها لن تستطيع صياغة مستقبلها صياغة ناجحة، والأهم من ذلك كله أن تحقيق التاريخ هو من صميم العمل بالقرآن وإقامة الدين والميزان، فبالتاريخ تعرف سير الأمم الغابرة، وتختبر أحوال الأمم الحاضرة، لتؤخذ العبرة، وتعرف الأقطار والبقاع، ويتحقق العلم بشؤون الاجتماع.
“أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” الروم.
“لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” يوسف.
بناء على ما تقدم نستطيع القول أن علم التاريخ في ظاهره إنما هو مرآة حقيقية للأمم، يعكس الماضي، ويترجم الحاضر، ويُستلهم من خلاله المستقبل، لأجل ذلك كان من اللازم تحري الدقة في تدوينه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً، وليس كما هو واقع الحال عند جمهور المثقفين اليوم، حيث أنهم تصدروا لكتابة التاريخ الإسلامي دون التزام بقواعد ضبطه ولا تقيُّد بأصول كتابته، لينتهي بهم الأمر إلى التلاعب في معطياته محرفين ومبدلين لها من خلال المقررات الدراسية التي أُلزم بها الطلاب في مدارسنا وجامعاتنا، مما أفرز في أذهانهم تاريخاً إسلامياً مشوهاً، يقابله تاريخ غربي مضخم لا عن مجرد خطأ غير مقصود، ولكن عن نية مبيتة أملاها العدو المتربص، ذلك العدو الذي يهمُّه أن لا تجد الناشئة المسلمة في تاريخها ما تعتز به، وأن تراه وحده -على عكس الحقيقة- هو صاحب الدور الأول في صناعة أمجاد التاريخ الإنساني، حتى إذا استيأست الناشئة المسلمة من ماضيها في محاولات لاستعراض دور الآباء والأجداد في صناعة الأمجاد ولم تجد فيه ما يشبع نهمها، امتلأت نفوسها إعجاباً بالدور المزيف للعدو وإكبارا لمنجزاته، عندها أصبح من السهل على العدو الانقضاض على زمام الأمر للتحكم في حاضرها وتقرير مستقبلها، لإذلال رقابها.
فمن أسفٍ أن تكون تلك هي الأقلام التي دوَّنت التاريخ الذي ندرسه في مدارسنا وجامعاتنا على وجه الخصوص، إنها أخطاء أساءت تقدير الدور الذي أداه الإسلام، وهي في الوقت نفسه تسيء إلى التاريخ البشري بمجمله، لقد فات أولئك المتصدرين أن الإسلام وأهله عبر تاريخهم الطويل حققوا وحدة أخوية في قوة ثابتة لها كل خصائصها المستقلة، لا يمكن أن يؤثر ضعفها العسكري الطارئ إلا تأثيراً عارضاً في وزنها الحقيقي.
فإلى كل غيور: هل من قلم حر نزيه يستدرك تلك الأخطاء؟ ليتضح بجلاء فضاعة ما ارتكب في حق تاريخنا المجيد من تزوير لحقائقه وتغيير لمناره، لقد أصبح من واجب القادرين على التصحيح إزالة كل ما ترتب عن تلك التقديرات السيئة من آثار سلبية، وذلك بكتابة التاريخ على وجهه الصحيح والتعريف المستنير، قياما بواجب الشهادة الحق، وحتى لا نكون محطًّا للعنة الأجيال المتتابعة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التصحيح خطوة ضرورية لها قيمتها في حساب المصلحة الإنسانية العامة، لأن تعمد الأخطاء في كتابة التاريخ هو من الأسباب المباشرة التي نتج عنها إقامة الحواجز بين أفراد الأمة الواحدة فضلاً عن سوء التقدير للمبادئ والحضارات. وكل هذا يؤذي البشرية في حاضرها ويؤذيها في مستقبلها.
ولله درُّ العلامة المؤرخ محمد المختار السوسي حيث نبه إلى هذا المعنى في كتاب المعسول فقال: “نحن نوقن أنه سيأتي يوم يثور فيه أولادنا أو أحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمُتُّ إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود. ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه، فلهؤلاء يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم، وما ذلك إلا بإيجاد مراجع للتاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا، بل يسجل فيه كل ما كان… فإن نَهَمَ من سيأتون في الغد سيَلْتَهم كل ما يقدم إليه كيفما كان ليستنتج منه ما يريد أن يعرفه عن ماضي أجداده”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *