هجرة عقول أم هروب نخب؟! ذ.عبد الكريم القلالي

سن الإسلام الهجرة ودعا إليها ورغب فيها وحث عليها باختلاف أشكالها وألوانها ما دامت في خدمة الدين ومن أجله. ومن أنواع الهجرة التي نص عليها التنزيل الهجرة في سبيل طلب العلم؛ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122). والهجرة لمثل هذا الغرض لا جدال في مشروعيتها؛ بل قد تصير واجبة أحيانا إذا اقتضت الحاجة ذلك.
وإذا تقرر هذا؛ فإن مما ابتليت به الأمة في الآونة الأخيرة هروب أبنائها -وليس هجرتهم- من مجتمعها، آمِّين مجتمعات غير إسلامية لمواصلة المسيرة العلمية فيها؛ والوصف الصادق المعبر عن الحالة الحقيقية لهاته الحركة هو الهروب وليس الهجرة؛ ذلك أن الهجرة في الأصل لا ملام عليها ولا تثريب وهي في سبيل طلب العلم ممدوحة ومطلوبة، وقد هاجر العلماء الأوائل واغتربوا سنوات من أجل تحصيل العلم؛ لكن الغرض من الهجرة كان هو التحصيل ثم العودة إلى بلدانهم للتبليغ والإفادة والنهوض بالمجتمع أو نشر ذلك في أرجاء العالم الإسلامي، أما اليوم فهروب النخب يتحول من هروب مؤقت إلى هروب دائم، وينتفع بذلك غير المسلمين فتقوى شوكتهم ويشتد بأسهم على المسلمين بتقنيات يعدها باحثون مسلمون؛ ويسخرها العدو لفتك المجتمع المسلم.
وما يزال هذا الهروب متواصلا ويزداد يوما بعد يوم لتوفر أسبابه واستمرار دواعيه؛ فعدد من هؤلاء المهاجرين لو وجدوا الظروف الملائمة في بلدانهم، لما اغتربوا لكنهم لما لم يجدوا الظروف مواتية، والأجواء مناسبة؛ اضطروا لمغادرة بلدانهم مكرهين؛ حيث يتلقون كل التسهيلات ويحظون بالعناية والترحاب في بلدان غير المسلمين لدى المجتمعات التي تقدر العلم وأهله.
“ولم تكن دوافع الهجرة الإسلامية نحو الغرب اختيارية في عمومها، فهي وليدة إكراهات داخلية وخارجية، بحثا عن الرزق والأمن والرفاهية، وتلبية لسد الحاجيات الأساسية. أما الوجه الاختياري في هذه الهجرة فمدخله الأساس ومقتضاه هو السنة التاريخية، التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته حول ولع المغلوب في الاقتداء بالغالب، وهو ولع يتنزل في عالمنا اليوم ضمن حضارة الغرب، طلبا للمعرفة والعلم، أو استفادة من التجربة التقنية والمؤسسية، أو انبهارا بالتجليات الشكلية في العادات والذوق”.
وغالب من يهرب من النخب العلمية يفرّ في مراحله النهائية بعد استكمال مشواره أو عند دنوه، وهو بذلك يكون قد كلف بلده ثمنا باهضا؛ وسخرت من أجله موارد بشرية ومالية طائلة؛ ثم يقدم بعد ذلك جاهزا للمجتمعات الأخرى التي تقطف ثماره.
ولو أن الأمر اقتصر على مجرد الهروب نحو العالم الآخر لاكتساب ما لدى تلك المجتمعات من صنوف المعارف والعلوم لكان الأمر مستساغا، ولكنها هجرة يعقبها مقام ومكوث في البلدان المهاجر إليها، ولا يستفيد من تلك الطاقات سوى المجتمعات التي توجد فيها. “والدول المتخلفة يراد لها أن تبقى متنكرة لهاته العقول وغير آبهة بها، وعاجزة عن الاستفادة منها، كما هي عاجزة عن الاستفادة من كثير من الخيرات الموجودة في ظهر وبطن أرضها، ويأتي الآخر الذي يفعلها ويجني ثمارها.
ولو أن ما ينفق على مهرجانات الفن الهابط من أموال يوجه نحو البحث العلمي لكان في ذلك غنية للباحثين واكتفاء وتشجيع يحملهم على المقام ببلدانهم، وإسداء النفع لأوطانهم.
والدول المستقبلة لهؤلاء الهاربين تشجع هذا الهروب بطرق مباشرة وغير مباشرة؛ لكون مصلحتها تقتضي ذلك؛ حيث:

  • يساعدها ذلك على التقدم والتنمية والابتكار.
  • وتؤدي تلك الهجرة إلى إضعاف البلدان الإسلامية وإبقائها على حالها في التخلف.
  • بث اليأس في نفوس الشعوب وعدم التفكير في أي نهضة أو تنمية علمية داخل بلدانهم.
  • إبقاء الدول الإسلامية دولا مستهلكة غير منتجة.

وليلا نكتفي بإلقاء اللائمة على الآخر وحده، ونحمله وزر هذا الهروب؛ فإن اللائمة الكبرى تقع على عاتق الأمة الإسلامية برمتها؛ لكونها تساعد في هجرة هاته النخب وتيسر السبل لهم نحو الهروب وتسد أمامهم الأبواب في بلدانهم وتزدري كفاآتهم، وأهم الأسباب التي تؤدي بالنخب إلى الهروب من أوطانهم؛ هي:

  • عدم العناية بالكفاءات العلمية ماديا ومعنويا في البلدان الإسلامية، ومن العيب والشنار أن نجد بعض النخب العلمية لا تجد ما تسد به حاجاتها الأساسية، وبعضهم أخرج ممتلكاته لبيعها علنا في الأسواق لتحصيل قوت يستكمل به ما تبقى من سني عمره.
  • تمييز بعض البلدان الإسلامية بين أبنائها والأجانب الذين يعملون لديها في المعاملة والأجر؛ بينما قد تكون كفاءة بعض أبناء البلد أحسن من الأجنبي الذي يعامل معاملة مميزة لا لشيء إلا لكونه أجنبيا؛ فيؤدي ذلك إلى هجرة النخب بحثا عن المساواة.
  • النظر إلى الآخر نظرة إكبار وإعجاب، وازدراء الكفاءات المحلية بمختلف الأشكال والصور.
  • غياب المشاريع العلمية التي يمكن أن تشجع الباحثين المسلمين على البقاء والاستثمار في أوطانهم.

الآثار:
ولإدراك آثار هاته الهجرة على البلدان الإسلامية؛ يكفي النظر إلى واقعها وتأمل ما تعانيه من تخلف وضعف في شتى الميادين، وما أنتجه أبناء الأمة بالبلدان التي هاجروا إليها، وكم من ابتكارات يعود لهم الفضل فيها لكنها تسجل باسم البلدان التي احتضنتهم وآوتهم، وهناك أمر غائب وبعد لا تستحضره كثير من البلدان الإسلامية وهو: أن “المواجهة العلمية/التكنولوجية والاقتصادية لزمن السلم قد تكون أصعب بكثير من المواجهة في زمن الحرب.
وللوصول إلى هذه الغاية، لا بد من مراجعة شاملة وجدية لإمكانياتنا وقدراتنا المبعثرة حاليا، والمفتقرة إلى التجميع والتنظيم العقلاني والتخطيط العلمي، والرؤية الاستراتيجية المستقبلية لأهمية وخطورة الأبعاد الفكرية الثقافية والعلمية[1]“.

العلاج:

  • توفير ظروف العمل والاستثمار في البلدان الإسلامية، وتقديم العروض المغرية للنخب العلمية.
  • الوعي بخطورة هجرة النخب، وإصدار دراسات حول الآثار المترتبة عن هجرتهم، والخسارة التي يتكبدها العالم الإسلامي بفقده هاته النخب.
  • وجود رغبة حقيقية في تحقيق اليقظة والتنوير والنهضة العلمية في البلدان الإسلامية؛ بما توفر من وسائل وتيسر من أساليب.
  • إحياء الطموح والأمل في نفوس النخب العلمية للاستثمار في بلدانهم.
  • توجبه الأوقاف وفروض الكفاية نحو هاته النخبة للمساعدة في إنجاز بعض المشاريع التي لا يستطيع الفرد تحقيقها بمفرده.

وليت البلدان الإسلامية تحذو حذو ماليزيا التي أصبحت رائدة بفضل سياستها العلمية والتقنية؛ حتى غدت دولة منافسة لكبرى الدول في مختلف القطاعات. وما حققته من تطور مرده إلى سياستها العلمية التي تعنى بالدرجة الأولى بالنخب العلمية، وتوفر لهم فرص العلم داخل بلدهم، وتغنيهم عن الهروب من أوطانهم.

[1] خلف محمد الجراد، الأبعاد الفكرية والعلمية التقنية للصراع العربي الصهيوني، الناشر: اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2000، ص: 5.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *