هل الإسلام دين لاهوتي؟

تقول شبهات التغريب أن الإسلام يستطيع أن يعطي العالم حاجته الروحية فحسب، وهذا قول باطل ظاهر البطلان، فحيث الغرب ينصهر في الفكر المادي الصرف؛ الذي يقوم على أساس الدروينية والعلم التجريبي والتفسير المادي للتاريخ، ونظرية فرويد في مادية الأخلاق وإعلاء جانب الغريزة في الإنسان بالإضافة إلى نظرية الذرائع التي تعلي من شأن المصلحة في مقابل كل عمل.

وحيث الشرق ينصهر في الفكر الروحي الصرف حيث البوذية والكنفوشيوسية ونظريات البرهمية التي تعلي من شأن الروحية والفناء الصوفي.
نرى الفكر الإسلامي يقوم على ازدواج الروح والمادة ازدواجا متفاعلا، مسبوكا فيه الدنيا مع الآخرة، والعقل مع القلب، قوامه التوحيد. وسيادة الإنسان للكون تحت حكم الله، مع الايجابية والتفتح والعصرية والتقدمية.
والفكر الإسلامي لم يغلق نوافذه أمام الفكر العالمي والإنساني قط، فهو فكر مفتوح قادر على التلقي لكل نزعات التطور والتغيير، محتفظا بذاتيته وقيمه ومقوماته، يأخذ ويعطي، دون أن يفقد طابع شخصيته أو ملامحه الأصيلة.
وقد اتصل الفكر الإسلامي بالفكر الروماني والإغريقي، الهندي والفارسي، وكان قادرا على أن يأخذ ويصهر ما يأخذ في بوتقته، أخذ دون أن تضغط عليه أي قوة ذات نفوذ، أما اليوم فإنه قد تعرض للاقتباس تحت ظل نفوذ أجنبي ضاغط، ومع ذلك فقد جاهد في سبيل المحافظة على مقوماته، وهو اليوم في هذه المرحلة من حياته: «مرحلة الرشد الفكري» قد أصبح قادرا على أن يرد عنه كل ما من شأنه أن يفسد مقوماته.
لقد جمع الإسلام بين العقيدة والشريعة، وبين العلم والعمل، وبين الجسم والروح، وبين الدنيا والآخرة، وجمع الفكر الإسلامي بين المعقول والمنقول.. والحضارة والدين، وبين الفردية والجماعية، وبين السياسة والأخلاق، وبين العلم والدين.
والإسلام هو التراث الحضاري بين العرب والمسلمين، وبين المسلمين والمسيحيين، وللإسلام ذاتيته الخاصة ومقاييسه الخاصة.
هذا الفهم للإسلام، هو أيضا فهم الباحثين الذين تعمقوا في الإسلام من غير المسلمين، يقول نعيمة عطية أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت :
«الإسلام في جوهره أكثر من مجرد إيمان ديني، إنه نظام حياة يشمل جميع المؤسسات الاجتماعية والدينية منها والزمنية، كما يجد الإنسان في الإسلام ما يتسع توقع الروحي عن طريق الإيمان بالله، والتعبير له بالصوم والصلاة والزكاة والحج، كذلك يجد فيه نظاما من القيم الأخلاقية والشرائع المدنية التي تعطيه أجوبة مفصلة لما يعترضه من مشكلات الحياة اليومية، تلتقي فيه الحياة الروحية بالحياة الدنيوية، فالإسلام نظام روحي ونظام زمني كلاهما متصل بالآخر وانعكاس له فلا محل للفصل بينهما، فالشريعة هي القاعدة التي يجب أن تتم على أساسها المعاملات بين المسلمين وتبني عليها حياتهم المدنية بكاملها، كما أن الجمع بين الحياة الروحية والحياة السياسية واجب ديني، لأن وحدة الأمة روحيا منوطة بوحدتها سياسيا ولذلك فالأمة في الإسلام لن تكتمل ما لم تتجسد في دولة تتيح للمسلمين أن يعيشوا بحسب فرائض دينهم» أ.هـ.
وفارق بين نظرة الإسلام إلى الإنسان ونظرة الأديان الأخرى، وقد جاءت اليهودية فانحرفت إلى الفردية الطاغية، ثم جاءت النصرانية فانحرفت إلى الروحية الخالصة، وإلى النظرة من هذه الدنيا -على حد تعبير العلامة صلاح الدين السلجوقي- فجاء الإسلام وسطا جعل الفرد متفاعلا مع المجتمع، وجعل المجتمع متفاعلا مع الفرد تحت اسم «التوازن»؛ ووسطية الإسلام لسيت فقط في تقريب الفرد من المجتمع ولا المجتمع من الفرد وإنما في السلوك الخلقي؛ لأن الوسط بين التفريط وبين الإفراط هو فضيلة وهو خلق..
يقول المؤرخ أرنولد تويني: «..الإسلام لم يدخل في معركة مع رسالة عيسى ولكن مع الكنيسة المسيحية التي استولت على عقول الروم واستسلمت إلى ما دعت إليه الوثنية الإغريقية من الشرك وعبادة الأصنام، فقد استنكر الإسلام هذا الشرك واسترد عبادة الإله الواحد، الذي دعا إبراهيم إلى عبادته من قبل، وهكذا حمل الإسلام شعلة التوحيد بين المسيحيين المشركين، من جهة، والهندوس المشركين من ناحية أخرى.. إن عقيدة التوحيد التي جاء بها الإسلام من أروع الأمثلة على فكرة توحيد العالم، وإن في بقاء الإسلام أملا للعامل كله، وشعيرة الحج تعد عاملا قويا في تطبيق مبدأ توحيد العالم، ليس المهم منها ما يؤدي من مناسك بل هي رمز للإخاء الذي يربط المسلمين بعضهم ببعض دون تفرقة لونية أو عنصرية«.
ولم يقف أثر الإسلام عند هذا الحد الذي وضعه (تويني) بل إنه تعداه إلى آفاق أخرى، وصفها (بارتلمي سانهير) حين قال: «إن الإسلام قد أحدث رقيا عظيما جدا في تدرج العاطفة الدينية، فقد أطلق العقل الإنساني من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة من ذوي الأديان المختلفة، فارتفع إلى مستوى الاعتقاد بحياة وراء هذه الحياة، ثم إن محمدا بتحريمه الصور في المساجد وكل ما يمثل (الله) قد خلص الفكر الإسلامي من وثنية القرون الأولى، واضطر العالم إلى أن يرجع إلى نفسه وأن يبحث عن الله خالقه في صميم روحه».
والإسلام واسع الأرجاء لتلقي العلم الحديث (على حد عبارة دكتور بول دي ركلا) هذا العلم الذي أنتجته الأجيال الطويلة، وليس كما يزعم البعض بمحدود الأطراف لأن التعاليم الرفيعة وضعت لكرور الدهور، وستبقى خالدة وضاءة الأنوار تكشف كل مدنية تتمخض عنها العصور».
وليس الإسلام جامدا لا يتحرك، وهي دعوى لا دليل عليها، كما يقول افيلكس فالي، ويضيف: «كان الإسلام في كل عصوره مثارا للحركة الفكرية في التاريخ» بل وسيبقى الإسلام قابلا للتطور، وهذه عبارة الجنرال يوصور حتى في ظل الدولة الحديثة: «فقد عرفت قدرة المسلمين على التوفيق بين العلم الحديث واستمساكهم بالقواعد التي رسمها الدين».
ولا تقف العقيدة الإسلامية في سبيل الفرد -كما يقول أثيان دينيه-: «وقد يكون المرء صحيح الإسلام وفي الوقت نفسه حر الفكر، وكما أن الإسلام قد صلح منذ نشأته لجميع الشعوب والأجناس فهو صالح كذلك لكل أنواع العقليات وجميع درجات المدنيات».
وما من دين استطاع أن يوحي إلى المتدينين شعورا بالعزة (وتلك عبارة والفرد كانتول سميت) كالشعور الذي يخامر المسلم من غير تكلف ولا اصطناع، وعنده أن الغربي لا يفهم الإسلام حق الفهم، إلا إذا أدرك أنه أسلوب حياة تصطبغ به معيشة المسلم ظاهرا وباطنا، وليس مجرد أنظار وعقائد يناقشها بتفكيره.
وليس شكا أن هذه الصنوف كلها وهي من كتاب غربيين، تدحض شبهة القول بأن الإسلام يستطيع أن يعطي العالم حاجته الروحية فحسب، ويكشف عن أن الإسلام دين ومدنية، وأنه قادر على الإعطاء في مجال النهضة والتقدم، وأن نظرته إلى الإنسان تختلف عن نظرة الأديان الأخرى وأن له ذاتيته الخاصة وطابعه وشخصيته.
وهو مع هذا التكامل الواضح، والوسيطة الصريحة، والحركة القادرة، ليس مغلقا ولا جامدا بل هو أميل إلى التسامح في القدرة على التلقي، والانفتاح على الثقافات الحية، ويرجع ذلك في اعتقادنا إلى إيمانه الذي لا يتزعزع بالقيم الأساسية والمبادئ الأصيلة وفي مقدمتها التوحيد، فنحن نؤمن دوما بأن لنا شخصية ولنا قيم ولنا رسالة في العالمين؛ وأن الإسلام هو التراث الحضاري للعرب والمسلمين جميعا.
من مقال شبهات وأخطاء شائعة في الفكر الإسلامي لأنور الجندي
مجلة دعوة الحق العدد الرابع السنة الثالثة عشرة- محرم 1390-أبريل 1970

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *