تعرضت يوم الثلاثاء السابع من ماي مكتبةُ عالم الاجتماع الديني وعضو رابطة علماء المغرب، الأستاذ إدريس كرم لحريق مهول، وحسب جريدة السبيل فقد كان الفضاء المحترق مخصصا لعرض مجموعة من مؤلفات الشيخ إدريس كرم، والمجلات النادرة، وكان مخزنا لأرشيف يرجع بعضهُ إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، كجريدة الميثاق، ومنها مجموعات مجلدة كمنبر الرابطة، وميثاق الرابطة .
وهي مكتبة أعدها لطلبة العلم من مدينته، وللباحثين المتخصصين وغيرهم من عموم القراء، في علوم الشريعة والتاريخ والفكر… وحسب شهادته: فقد حضرت السلطات المحلية والضابطة القضائية لمعاينة الحادثة، وأنه حسب الظروف المحيطة بالحادثة، يُحتملُ أن الحريق كان بفعل فاعل.
ويحق لنا انطلاقا من عبارته “بفعل فاعل” أن نفهم أنه لم يكن هناك داعٍ آخرُ للاحتراق، كتعطل مولد كهربائي أو انطفاء شمعت تُركت أو سقوط شعلة ما دون قصد لأحد القراء أو تسرب غاز لقنينة معينة أو غير ذلك من الاحتمالات، فيبقى السؤال المطروح هو: من أحرق مكتبة الشيخ إدريس كرم؟
لا شك أن ملابسات الصراع المرجعي والفكري بين فصيل إسلامي يعتمد الحجة والبرهان الشرعيين والعقليين في حواراته وكتاباته، وفي نصحه للمسلمين، وبين فصائل أخرى متعددة، لا تعتمد الإسلام منطلقا في كل أحوالها، بل تنتقصه وتزدري بأصحابه وتتهمهم بالتشدد والرجعية، لا شك أن ملابسات هذا الصراع سيكون لها دخل كبير في إحراق مكتبة الباحث الكبير إدريس كرم.
خصوصا إذا علمنا أن ما يخوف غيرَ الإسلاميين هو الشريعة الإسلامية السمحة، بما تشمل من علوم ومعارف، مجموعة في مصنفات وكتب قيمة نفيسة، بعضها موجود في المكتبات العامة، مطبوع متداول، وبعضها نفدت طبعاته وفقدت، فبقيت نسخ منها في بعض المكتبات الخاصة، التي يوجه إليها المنهزمون فكريا أعينهم ليجتثوها من أصلها.
ومما لا يخفى أيضا أن مصدر قوة الإسلام والملتزمين به تكمن في تراثهم العريق ذي الأقطاب الثلاثة: الدين واللغة والتاريخ المدقق المنقح من الخزعبلات، وأن قوة المرء العقلية والعلمية والمعرفية نابعة من قوة تراثنا العظيم، الذي ورثناه عن أجداد مخلصين، ورثوه أيضا عن آبائهم، إلى أن تصل السلسلة إلى المعلم الأول رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهو كنز جليل متى عاد إليه المسلمون لينهلوا منه ويعملوا به عاد إليهم مجدهم وسؤددهم، وهذا أخوف ما يخاف منه الغرب الغاشم وأعوانه.
ولا يُعقلُ أن يحرق المكتبة إنسان جاهل بما فيها، لا تضره من قريب ولا من بعيد، إلا أن يكون ذلك بإيعاز ممن يعلم قيمة التراث الإسلامي وقدرتَه على تصفية أذهان الناس وتوجيههم الوجهة السليمة لخدمة أنفسهم ومجتمعاتهم؛ إذ بالعلم الشرعي وسائر العلوم الدنيوية النافعة ترقى الأمم وتزاحم الدول المتقدمة.
وإذا ربطنا هذه الفاجعة بالحرب الضروس التي يشنها بعض الناس على مقدسات المسلمين بدعوى حرية الفكر والرأي، علمنا أن مسألة الإحراق قد تكون نوعا جديدا سيعتمد في قابل الأيام -لا قدر الله- لتصفية حسابات خاصة مع باحثين إسلاميين، يتوفرون على ثروات معرفية وكنوز علمية.
وهو أمر يدل على شيئين: الأول هو إحساس خصوم الإسلاميين بالهزيمة النكراء بعد أن عرَّتهم الثورات في البلاد العربية الإسلامية، وأظهرت خفوتَ صوتهم في الشارع، وأن لا مكانةَ لهم في نفوس عموم الناس، فلم يبق لهم إلا القضاء على منبع الإشعاع الثقافي.
والثاني هو ضيق الأفق العقلي والمعرفي الذي يطبع هؤلاء؛ إذ لو كانوا أهلا للحوار والجدال بالتي هي أحسن مع من يخالفهم الرأي، ساعين إلى الحق متى ظهر لهم، غيرَ منحازين بدايةً إلى فكر غربي حداثي مناقض لتراثهم الإسلامي الأصيل، لو كانوا كذلك لما اتهموا خصومهم دون دليل بالإرهاب والتطرف، ولما وصفوا مصادر معرفتهم بالكتب الصفراء .
إن ما دفعني إلى تدوين هذه النفثة هو سماعي لمداخلة المفكر الإسلامي المصري محمد عباس في برنامج “مصر الجديدة” على قناة الناس الفضائية، يوم الأربعاء 22 من شهر ماي، يتحدث بقلب منكوب وصبر كبير عن مكتبته التي أُحرقت هي أيضا، مؤكدا أن فلولَ النظام الهالك المجتمعين في جبهة الإنقاذ الوطني هم من حرض البلطجية على إحراق المكتبة، كما حرضوهم قبل شهور على إحراق مكاتب الإخوان المسلمين، ومحاصرة أحد المساجد لساعات طوال، وتطويق قصر الاتحادية الرئاسي ورميه بالنيران، وغير ذلك من شغب وتمرد.
وعملهم ذلك أشبه بفعل هولاكو التتري ببغداد عاصمة العلم والثقافة لما دخلها، ذلك أن أول ما يقوم به المخربون أعداء الحوار من المحتلين هو القضاء على كنوز المسلمين العلمية بعد أن يختاروا منها ما يفيدهم في دنياهم، ومن يتابع المشهد المصري بأعين منصفة غير حاقدة تتجلى له هزيمة علمانييهم وضيق عَطَنهم وسعيهم الدؤوب لإسقاط نظام شرعي، أفرزته انتخابات ديموقراطية نزيهة، وانتهاجهم سبيل التتر الهمج للقضاء على نظام مرجعيته إسلامية.
فهل إحراق مكتبتين لمفكرين إسلاميين مشهورين، في أقل من 15 يوما، في دولتين متباعدتين جغرافيا، متقاربتين دينيا وثقافيا وتاريخيا يُعدُّ من قبيل الصدفة؟