القرآن كتاب الكون، لا تُفسِّره حقَّ التفسير إلا حوادث الكون.
والقرآن كتاب الدعوة، لا تكشف عن حقائقه العليا إلا تصاريف الدهر.
والقرآن كتاب الهداية الإلهية العامة، فلا يفهمه إلا المستعدون لها.
والقرآن (لا يبلى جديده، ولا تنقضي عجائبه).
جاء القرآن لهداية البشر وإسعادهم، والاهتداء به متوقِّف على فهمه فهماً صحيحاً..
والقرآن حُجَّة على غيره، وليس غيره حجَّة عليه، فبئس ما تفعله بعض الطوائف الخاضعة للتمذهب من تحكيم الاصطلاحات المذهبية، والآراء الفقهية، أو العقلية فيه، وإرجاعه بالتأويل إليها إذا خالفته.
ومن الخطل، بل من الخذلان المفضي بصاحبه إلى ما يُستعاذ منه أن يجعل الرأي الاجتهادي غير المعصوم أصلاً، ويجعل القرآن المعصوم فرعاً، وأن يعقد التوازن بين كلام المخلوق وكلام الخالق، إنَّ هذا لهو الضلال البعيد.
ما أضاع المسلمين، ومزَّق جامعتهم، ونزل بهم إلى هذا الدرك من الهوان إلَّا بُعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عِضِين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها، وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها، وفي نواجم الفتن ليُجلي غماءها، وفي معترك الشهوات ليكسر شِرَّتها، وفي مفارق سُبل الحياة ليهدي إلى أقومها، وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميِّز هذه من تلك، وفي مجامع العقائد ليميِّز حقَّها من باطلها، وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب، وإنَّ ذلك كلَّه لموجود في القرآن بالنصِّ أو بالظاهر أو بالإشارة والاقتضاء، مع مزيد تَعجِز عنه عقول البشر مهما ارتقت، وهو تعقيب كلِّ حُكم بحكمة، وكلِّ أمر بما يُثبِّته في النفس، وكلِّ نهي بما يُنفِّر عنه، لأنَّ القرآن كلام خالق النفوس، وعالم ما تكنُّ وما تُبدي، ومركِّب الطبائع، وعالم ما يصلح وما يفسد، وبارئ الإنسان وسطاً بين عالمين:
أحدهما: خير محض.
والآخر: شر محض.
فجعله ذا قابلية لهما من غير أن يكون أحدهما ذاتيَّا فيه، ليبتليه أيشكر أم يكفر، وليمتحنه أيَّ الطريقين يختار؛ كلُّ ذلك ليجعل سعادته بيده، وعاقبته باختياره، وتزكيته أو تدسيته من كسبه، وحتى يهلِك عن بيِّنة، أو يحيا عن بيِّنة.
وإذا كان العقلاء كلُّهم مجمعين على أن المسلمين الأولين صلحوا فأصلحوا العالم، وسادوه فلم يبطروا، وساسوه بالعدل والرفق، وزرعوا فيه الرحمة والحب والسلام، وأن ذلك كله جاءهم من هذا القرآن؛ لأنَّه الشيء الجديد الذي حوَّل أذهانهم، وهذَّب طباعهم، وثبَّت الفضائل في نفوسهم، فإن الإجماع على ذلك يُنتج لنا أنَّ سبب انحطاط المسلمين في القرون الأخيرة هو هجرهم للقرآن، ونبذه وراء ظهورهم واقتصارهم على حفظ كلماته.
وحفظ القرآن- وإن كان فضيلة- لا يغني غَناء ما لم يُفهم، ثم يُعمل به.
وهجر المسلمين للقرآن يُردُّ إلى أسباب، بعضها آتٍ من نفوسهم، وبعضها آتٍ من خارجها.
فمن الأوَّل: افتتانهم بآراء الناس، وبالمصطلحات التي تتجدَّد بتجدُّد الزَّمان، ومع طول الأمد رانت الغفلة، وقست القلوب، وطغت فتنة التقليد، وتقديس الأئمة والمشايخ، والعصبية للآباء والأجداد، وغلت طوائف منهم في التعبد، فنجمت ناجمة التصوف والاستغراق، فاختلَّت الموازنة التي أقامها القرآن بين الجسم والروح، وغلت طوائف أخرى في تمجيد العقل، فاستشرف إلى ما وراء الحدود المحددة له، وتسامى إلى الحظائر الغيبية، فتشعَّبت به السبل إلى الحقِّ في معرفة الله وتوحيده، ونجمت لذلك ناجمة علم الكلام، وما استتبعه من جدل وتأويل وتعطيل، وتشابهت السبل على عامة المسلمين؛ لكثرة هذه الطوائف، فكان هذا التفرق الشنيع في الدين أصوله وفروعه.
وفي غمرة هذه الفتن بين علماء الدين، ضاع سلطانهم الديني على الأُمَّة، فاستبدَّ بها الملوك، وساقوها في طريق شهواتهم، فأفسدوا دينها ودنياها، وكان ما كان من هذه العواقب المحزنة.
ومن الثاني: تلك الدسائس الدخيلة التي صاحبت تاريخ الإسلام من حركات الوضع للأحاديث، إلى هجوم الآراء والمعتقدات المنافية للقرآن، إلى ما ادُّخر لزماننا من إلقاء المبشرين والمستشرقين للشبهات في نصوص القرآن عن عمد؛ ليصدوا المسلمين عن هديه، وإن خطر هذه الفتنة الأخيرة لأعظم مما يتصوَّره علماؤنا، ويقدِّره أولياء أمورنا.
هذه العوامل مجتمعة ومفترقة، وما تبعها أو لازمها من عوامل فرعية هي التي باعدت بين المسلمين وبين قرآنهم، فباعدت بينهم وبين الخير والسعادة والعزة، وأصبحوا -كما يرى الرائي- أذلة مستعبدين، ولا يزالون كذلك ما داموا مجانبين لسنن القرآن، معرضين عن آياته وإرشاداته، غافلين عما أرشد إليه من السنن الكونية.
عن مقال دولة القرآن للبشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى
نشر سنة 1953