عرضنا في الحلقة الماضية مواضع ورود ضميمة “أهل التوحيد” في كتاب الإبانة، وأدركنا من خلالها بأنّ الأشعري اعتمد في بيانه مفهوم المصطلح على ما جاء في سياقات ذكره في حديث الشفاعة يوم القيامة برواياته المختلفة -وهذا لا غنى عنه لأحد يتناول الضميمة بالدّراسة- لذلك أوردناها من أجل مناقشة المصطلح في سياقاته الحديثية، وهو أخصر طريق يُبلّغ المراد.
إنّ محل الشفاعة في الحديث برواياته هم ناس يدخلون النّار بذنوبهم ويمكثون فيها ما شاء الله لهم، ثم يُشفّع الله فيهم من شاء من عباده، فيخرجَهم ويدخلهم الجنة برحمته بعد تنقيتهم مما علق بهم من شوائب النار وآثارها. وهؤلاء نجّاهم الله تعالى من الخلود في العذاب لصفات فيهم ذكرت مختلفة في روايات الحديث؛ فهم “ناس من أهل التوحيد” وهم “من قال لا إله إلا الله”، وهم “من في قلبه ميزان شعيرة من إيمان” أو “من في قلبه مثقال قيراط من إيمان” أو “مثقال خردلة من إيمان” أو “أدنى أدنى أدنى حبة خردل من إيمان”، وهم “من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله”، وهم “من كان يعبد الله” وهم “قوم لم يعملوا خيرا قط”، وهم الذين كانوا يسجدون لله تعالى في الدنيا.
هنا تناوبت مصطلحات العبادة والإيمان والشهادة والتوحيد وترك الشرك في محل واحد، وعبرت عن أحوال ومراتب في التديّن كما هو معلوم من استعمالاتها في النصوص الشرعية، والمشترك بين المتصفين بها أنهم كلهم من “أهل التوحيد”.
ويدلّ منطوق النصوص على أن الجهنّميين يخرجون على دفعات، والأسبقية بفضل الله تعالى تكون بحسب الدرجة من الإيمان، والإيمان قول وتصديق وعمل، وهو الذي أقر به الأشعري في الإبانة بقوله: «وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص»[i]، أما التصديق فهو مكنون في القلب لا يعلم حقيقته إلا العليم الخبير سبحانه. وتتجلى مرتبتهم في الإيمان في درجة تعبدهم لله سبحانه. والمصلون منهم يُعرفون من بين الجميع بآثار السجود التي حرم الله على النار أن تأكلها. هؤلاء المصلون سموا في حديث آخر عن الجهنميين بأهل القبلة.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من أهل القبلة من شاء الله، قالوا: ما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، قال: فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا، فيقول الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما أخرجوا، قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الرۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ، رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ” (الحجر:1-2)»[ii].
واستعمل أبو الحسن الأشعري المصطلح بذات المعنى الذي ذكرناه وذلك في قوله: «وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يستحله كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون»[iii]. وسموا أهل القبلة لتوجههم في صلاتهم إلى القبلة المعلومة، فهم مسلمون يدل على إسلامهم إتيانهم بالركن الثاني من أركان الإسلام.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم قتل العدو الذي أظهر هذه الشعيرة لأنه من أهل القبلة حينئذ، لكن بشرط حدده حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه حيث قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل. قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: “أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين” قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: “لا تراءى ناراهما”»[iv]. ويُفهم من نص الحديث أن هؤلاء النفر أسلموا، وركنوا إلى الصلاة بالسجود لمّا اقترب جند السرية من قتالهم، وهذا دليل واضح على حرمة دمائهم وأموالهم، لكن لوم النبي صلى الله عليه وسلم لمن أسلم وأقام في جماعة المشركين المحاربين للإسلام أعذر الذين قتلوهم من المسلمين، إذ كان يجب عليهم أن يميزوا جماعتهم عن جماعة الشرك بالابتعاد عنهم.
[i] – الإبانة، 2/26.
[ii] – الحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الله. المستدرك على الصحيحين، الحديث: 2954، 2/265.
[iii]– الإبانة، 2/26.
[iv] – سنن أبي داود، رقم الحديث: 2645، 3/45.