من وعد بلفور 1917 إلى وعد ترمب 2017

إذا كانت بريطانيا تحمل أوزار جلب الأشرار من اليهود إلى الأرض المقدسة؛ فقد ورثت أمريكا منها ومن بقية دول الاستعمار الأوربي الصليبي كل تبعات ونتائج الغارة على العالم الإسلامي بعامة، والأرض المقدسة في الشام بخاصة، حيث تسلمت الولايات المتحدة حمل حبل الحماية والرعاية لكيان اليهود ضد مجموع المسلمين.
فخلال كل الحروب التي شنتها الدولة الصهيونية على الأراضي العربية؛ كانت أمريكا تقف بلا حدود وتؤيد بلا تحفظ أي خطوة يقدم عليها اليهود للمزيد من إهانة المسلمين والهيمنة على مقدساتهم، وذلك خلال سني ما كان يسمى بالصراع «العربي-الإسرائيلي»، بمراحله العسكرية الحربية، ومحطاته التفاوضية الاستسلامية.
ولأن الحديث يطول في ذلك؛ فسوف نقتصر في هذا المقال على المشهد الأخير من الموقف الأمريكي من القدس وقضيتها المزمنة والراهنة، وكيف أنه هذا الموقف أعاد نكأ الجراح، وكرر التحذير من خطر التوجهات الأمريكية الحالية، التي تغلب عليها المسحة اليهودية والخلفية التوراتية، مهما اكتست بصيغ الدبلوماسية، أو اكتسبت صبغة العلمانية الحيادية.
فمنذ صدر قانون الكونغرس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والذي صدر في 8 نوفمبر 1995م؛ والرؤساء الأمريكيون المتعاقبون يؤجلون تنفيذه خوفاً من عواقبه وتداعياته المحتملة وغير المحسوبة على اليهود، وعلى الأمن القومي الأمريكي نفسه، لكن الرئيس الأمريكي الحالي (دونالد ترمب) الذي جعل نقل السفارة للقدس أحد وعوده الانتخابية، ظل يكرر هذا الوعد.
وقد ألمح -بل صرح ترمب- بأن المستوطنات الصهيونية في القدس لا تشكل عقبة في طريق السلام، وهو يلح على أن الواجب على الفلسطينيين ليس محاربة الاحتلال اليهودي لفلسطين؛ بل عليهم التعهد بالاستمرار في محاربة ما أسماه «الإرهاب الإسلامي» داخل فلسطين، قبل مناقشة أي اتفاقية للسلام.
وكان ترمب قد عارض الإجراءات التي عرضت على مجلس الأمن بشأن الحد من بناء المستوطنات قبل تسلم منصبه، محاولاً الضغط على إدارة أوباما لاستخدام حق الفيتو لرفضها.
ترمب لم يكتف بإظهار عواطفه الحارة تجاه اليهود؛ بل عين فريقاً من ناشطي الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية لتولي ترتيبات عملية السلام التي يراها، ومن ضمن هؤلاء زوج ابنته اليهودي “جارد كوشنر”، الذي تهودت ابنة ترمب بناء على رغبته؛ حيث قال له: «إذا لم تستطع تقديم السلام في الشرق الأوسط، فلن يفعل أحد ذلك».
ورشح ترمب صديقه المشهور بصهيونيته «ديفيد فريدمان» سفيراً لدى الكيان الصهيوني، وهو معروف بحماسه لنقل السفارة للقدس ودعمه القوي لبناء المستوطنات فيها، إلى الحد الذي جعله يتبرع سنوياً لدعمها وتوسيعها، وقد طلب ديفيد الإقامة في القنصلية الأمريكية بالقدس، حتى قبل نقل السفارة! في نوع من التحايل الماكر، لأن المكان الذي يعمل به السفير يعد هو السفارة، وليس المبنى نفسه.
تدل الشواهد الظاهرة على أن ترمب يريد تغيير قواعد اللعبة فيما يسمى عملية السلام بنقل السفارة من تل أبيب، وقد ينقلها للقدس الغربية، تاركاً لحكومة الاحتلال تدبير نقلها فيما بعد إلى القدس الشرقية، وفق إستراتيجيتها المعلنة في توحيد شطري المدينة لتكون عاصمة موحدة أبدية للكيان الصهيوني كما يردد زعماء اليهود المتعاقبون! وهو بهذا يريد لـ«وعد ترمب» في العام 2017م أن يحقق الهدف الذي صدر من أجله «وعد بلفور» في عام 1917م! (عودة القدس للواجهة.. هل تعيد المواجهة؟ د. عبد العزيز التركي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *