جوانب من منهج السلف في تربية الأطفال الجانب الدعوي (10) ذ. رضوان شكداني

يغفل كثير من المسلمين عن تربية أولادهم التربية الصحيحة المتوازنة في جميع جوانبها، ومن هذه الجوانب جانب التربية الدعوية.
ونقصد بالتربية الدعوية للطفل أن يربى على حب الدعوة إلى الله وتبليغ الحق للخلق فيتمثل الطفل منذ صغره بمهمة الدعوة إلى الله بأن يكون داعية في مظهره، وفي جوهره، ترى أثر الدعوة في عباراته، وفي قسمات وجهه، وفي تعبيراته وطموحاته، وهذه التربية الدعوية هي ثمرة كل جوانب التربية السابقة.
وإذا تتبعنا آيات القرآن الكريم وسنة النبي الرحيم ومنهج السلف القويم لوجدنا اهتماما كبيرا بإبراز هذا النوع من التربية، وذكر بعض النماذج لتحفيز الآباء والمربين على تربية أولادهم ليكونوا مثل هذه النماذج؛ ومن هذه النماذج ما ذكره الله عز وجل عن لقمان الحكيم لما أوصى ولده فقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان:17).
قال ابن جرير: ”يقول -تعالى ذكره- مخبرا عن لقمان لابنه (يا بني أقم الصلاة) بحدودها (وأمر بالمعروف) يقول: وأمر الناس بطاعة الله، واتباع أمره (وانه عن المنكر) يقول: وانه الناس عن معاصي الله ومواقعة محارمه (واصبر على ما أصابك) يقول: واصبر على ما أصابك من الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف، ونهيتهم عن المنكر، ولا يصدنك عن ذلك ما نالك منهم” تفسير الطبري 20/143.
فينبغي لكل المربين والموجهين أن يجعلوا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر من أولويات مناهجِكم التربوية ودروسِكم العلمية وتطبيقاتِكم العملية، ربو الأمة صغارَها قبل كبارها على التشبع بقيم هذا الدين والدعوة إليه لأنه طريق التمكين.
ومن هذه النماذج غلام الأخدود هذا الطفل الذي ذكره الله -عز وجل- نموذجا يتلى إلى يوم القيامة في الصبر والتضحية في سبيل الدعوة إلى الله رغم صغر سنه قال تعالى: {قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} البروج.
وقد جاءت قصته مفصلة في السنة النبوية فعن صهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسل قال: “كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلامًا أعلمه السحر. فبعث إليه غلامًا يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها، فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بُنَيَّ، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، فإن ابتُليت فلا تدُلَّ عليَّ.
وكان الغلام يُبرِئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع، إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنتَ بالله تعالى، دعوتُ الله فشفاك. فآمن بالله تعالى، فشفاه الله تعالى.
فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذِّبه حتى دلَّ على الغلام. فقال له الملك: أي بُنَيَّ، قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله تعالى. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك. فأَبَى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مَفْرِق رأسه فشقه حتى وقع شِقَّاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فأَبَى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه.
ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك. فأَبَى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه، وإلاَّ فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى.
فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قُلْ: باسم الله رب الغلام. ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام. ثم رماه، فوقع السهم في صُدْغه، فوضع يده في صدغه، فمات
فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام.
فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرُك قد آمن الناس. فأمر بالأخدود بأفواه السكك، فخُدَّت وأُضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه. ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه، اصبري فإنك على الحق”. رواه مسلم:3005.
فمن أعظم الدروس المستفادة من هذه القصة إصرار الغلام على نشر الدعوة وهذا يؤخذ من هذا المشهد الذي تكرر مرتين في الحديث «وجاء يمشي للملك» فلماذا بعدما نجا في المرة الأولى وفي المرة الثانية لم يهرب بل عاد إلى الملك الظالم إن في عنقه رسالة لابد أنه مؤديها لذلك عاد مرة تلو المرة.
إنه يعطي درساً عظيماً للدعاة صغارا وكبارا، في الإصرار على الدعوة والصبر على الحق وإرشاد الخلق.
وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي شباب وأطفال المسلمين على أن يكونوا دعاة إلى الله عز وجل منذ صغر سنهم فعن أبى قلابة قال: حدثنا مالك (هو ابن الحويرث) قال: «أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا، سألنا عن {من} تركنا بعدنا؟ فأخبرناه قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم -وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها- وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرتم الصلاة». رواه البخاري:653.
وها هو زيد بن أرقم رضي الله عنه يخدم الدعوة الإسلامية حين يكشف زيف المنافقين وحقدهم رغم صغر سنه وذكر الله ذلك في قوله تعالى في محكم تنزيله:
«هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون، يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون» المنافقون:7-8.
فهذه الآيات نزلت في زيد بن أرقم رضي الله عنه، تصديقاً لهذا الطفل الذي حذر من كيد المنافقين بالمؤمنين وكشف حقدهم على النبي الأمين.
وهذه الحادثة رواها مسلم في صحيحه برقم2772 عن زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، يَقُولُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ لأَصْحَابِهِ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ‏.
قَالَ زُهَيْرٌ وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ خَفَضَ حَوْلَهُ‏.
وَقَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ -قَالَ- فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ، فَقَالَ: كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -قَالَ- فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي ‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ‏}‏ قَالَ ثُمَّ دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ -قَالَ- فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ‏.‏ وَقَوْلُهُ: ‏{‏كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ‏}‏ وَقَالَ كَانُوا رِجَالاً أَجْمَلَ شيء ‏.
ومن أعظم أبواب الدعوة تعليم العلم وهذا الباب لم يغفله السلف فقد كان صغارهم يعلمون كبارهم وقد قال الإمام ابن مفلح -رحمه الله- في كتابه الآداب الشرعية 2/ 214.
«فصل: في أخذ العلم عن أهله وإن كانوا صغار السن»، قال الإمام أحمد: بلغني عن ابن عيينة قال: الغلام أستاذ إذا كان ثقة.
وقال علي بن المديني: لأن أسأل أحمد بن حنبل عن مسألة فيفتيني أحب إلي من أن أسأل أبا عاصم وابن داود، إن العلم ليس بالسن.
وروى الخلال من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: قال عمر رضي الله عنه: «إن العلم ليس عن حداثة السن ولا قدمه، ولكن الله تعالى يضعه حيث يشاء».
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كنت أُقرِئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف» رواه البخاري برقم 7323.
وقد قال سمرة بن جندب: «لقد كنت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلاماً فكنت أحفظ عنه؛ فما يمنعني من القول إلا أنَّ هاهنا رجالاً هم أسن مني». مسلم:1609.
وهذا يدل على أن أطفال السلف كانوا يدعون إلى الله ويعلمون غيرهم –بعد تأهلهم- من غير استنكاف المتعلمين ولا استعلاء المعلمين.
ومن النماذج الرائقة في حمل هم الدعوة عند أطفال السلف ما ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة 6/143 بقوله: «قدد بن عمار السلمي‏.‏ وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، أورده ابن شاهين هكذا، وقال بإسناده عن علي بن محمد المدائني، عن أبي معشر، عن يزيد بن رومان- ورجال المدائني قالوا‏:‏ ثم قدم بنو سليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقايد عام الفتح، وهم سبعمائة، ويقال‏:‏ ألف، فقال الناس‏:‏ ما جاءوا إلا للغنائم‏!‏ وفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً قد كان قدم عليه، فقال، ‏«‏ما فعل الغلام الحسان الطليق اللسان، الصادق الإيمان‏»،‏ قالوا‏:‏ ذاك قدد بن عمار، توفي‏:‏ فترحم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وكان قد وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه وعاهده أن يأتيه بألف من بني سليم، وأتى قومه وأخبرهم الخبر، فخرج في تسعمائة، وخلف في الحي مائة، وأقبل بهم يريد النبي صلى الله عليه وسلم فنزل به الموت، فأوصى إلى ثلاثة رهط.‏ من قومه‏:‏ إلى عباس بن مرداس، وأمره على ثلاثمائة، وإلى الأخنس بن يزيد وأمره على ثلاثمائة، وإلى حبان بن الحكم وأمره على ثلاثمائة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏«‏أين الغلام»‏‏، وذكره، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏«‏أين تكملة الألف‏»؟ تخلف في الحي مائة رجل‏.‏ فأمرهم أن يبعثوا يحضرون المائة، فأحضروهم، وعليهم المقنع بن مالك بن أمية، وله يقول عباس بن مرداس‏:‏
القائد المائة التي وفى بها ** تسع المئين فتم ألفاً أقرعا
أخرجه أبو موسى.
فينبغي أن يعلم أن دخول الطفل المسلم حقل الدعوة منذ الصغر خليق بأن يصنع لنا جيلا رائدا يقود ولا يقاد، كما أن مشاركة الطفل والأخذ برأيه في معالي الأمور يكسبه ثقة بالنفس تؤهله لتحمل تكاليف الدعوة وأعبائها، وألا يكون إمعة إن أحسن الناس أحسن، وإن أساءوا أساء، بل يكون مؤثرا في مجتمعه إيجابيا داخل محيطه خادما لدينه وأمته ووطنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *