آفات النفوس.. والأحداث رشيد مومن الإدريسي

زمن الفتن والتغيرات من أشد الأمور وقعا على الناس حتى يحتار الحليم في أمره، ويلتبس على العاقل شأنه، وذلك لعظم شأن النوازل والحوادث، حتى قيل: “عند الحوادث تذهل النفوس عن النصوص”.

ولذا حري بالعبد المسلم عند ذلك أن يلزم السنة اعتقادا وحالا وقولا لما لذلك من آثار طيبة من أجلها تهذيب النفوس، وتحقق استقرارها، وما يستلزم ذلك من الحياة الطيبة، والثبات والطمأنينة، بحيث لا ترى في هذه النفوس المطمئنة عوجا، ولا تلحظ تناقضا أو تحولا، بل هي في منأى عن ذلك كله، وإن عرض شيء منه فسرعان ما يتلاشى ويضمحل.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك وإن امتحنوا بأنواع المحن وفتنوا بأنواع الفتن؛ وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة”1.
ففي خضم ما يجري من أحداث هنا وهناك وهنالك، ومن جراء ما يرى المرء في خصوص ذلك من تصرفات ومسالك، ومن خلال ما يُسمع في ساحتها من قالات يتنزه عنها الناسك، يعي المرء ما للأحداث والحوادث من أثر بليغ على كثير من النفوس مما يَقض مضجع السالك، (ولا أبرئ نفسي)، فنعوذ بالله من المهالك.
فالتفلت عن السنة -خاصة في زمن الفتنة- في كبير أو صغير2، والغفلة عن قواعد أهل التحرير، والانحراف عن الضوابط المرعية وحسن التعبير، هو أمر مرير لعلاقته بخبايا النفوس المريضة ولكونه من آفات الخروج عن الهدي النبوي والانحراف في المسير، ولأنه من نتائج عدم الضبط وسوء التقدير.
فآفات النفوس ودسائسها لا حصر لها، وما يعتري النفوس من اعوجاج وتلون واضطراب يتعذر استيعابه، وكما قال أحد الشيوخ للإمام ابن القيم رحمه الله: “آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها، والاشتغال بقتلها انقطع، ولم يمكنه السفر قط، ولتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله، ثم امض على سيرك”3.
وليعلم -بعد استعاذتي بالله من الطعن في المقاصد والنيات- أن آفات النفوس لها قرائن تبدوا على الظاهر فإن “الإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة، وهذا أمر يعرفه الناس فيمن جربوه وامتحنوه”4.
فالحذر الحذر -خاصة إذا كنت صاحب سنة- عند حلول الحوادث والفتنة من الجري وراء التزيين وعدم الحرص على الدليل وترك الطرائق الصحيحة للاستدلال والتدليل، فإن أساس ذلك إذا لم يكن هناك نقص في مراعاة فقه التنزيل: آفة في النفس ترجع إلى موافقة الهوى والخروج عن التأصيل ولذا فـ”من اعتاد الجري على أقوال لا يبالي دل عليها دليل صحيح أو ضعيف، أو لم يدل يخمد ذهنه، ولا ينهض بطلب الرقي، والاستزادة في قوة الفكر والذهن”5.
ومن آفات النفوس التي تُفضح زمن التغيرات آفة العجب والتي تتمثل في إعجاب كل ذي رأي برأيه، “ألا ترى أن الذي يُعظم نفسه بالباطل: يريد أن ينصر كل ما قاله، ولو كان خطأ؟!”6، ورضي الله عن علي لما قال: “الإعجاب آفة الألباء”7.
ويتفرع عنه عدم أخذ الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار من باب (الاعتقاد ثم الاستدلال))!!(، وهو من سمات أهل البدع فتنبه وتجنب الاعتلال كما قرره الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله: “ولذلك سمي أهل البدع: أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهوائهم فلم يأخذوا الأدلة مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهوائهم واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك”8.
ومن آفات إعجاب المرء بنفسه تطلعه إلى الصدارة، وشغفه بالريادة، ومحبته للرئاسة، كما قال أحد السلف: “ولا تر المعجب إلا طالبا للرئاسة”9.
ورحمة الله على من قال:
حب الرئاسة داء لا دواء له **** وقل ما تجد الراضين بالقسم
ومن أعظم صورها (حب الرئاسة في العلم) قبل الوصول إلى مرتبتها بل بمجرد الوهم10 وقد قال يزيد بن هارون رحمه الله: “من طلب الرئاسة في غير أوانها حرمه الله إياها في أوانها”11.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد، حتى قالوا: حب الرئاسة آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين! فكيف إذا انضاف إليه من الهوى من الأصل، وانضاف إلى هذين الأمرين دليل -في ظنه- شرعي على صحة ما ذهب إليه؟! فيتمكن الهوى من القلب تمكنا لا يمكن في العادة الانفكاك عنه، وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه”12.
ومن نتائج ذلك أن يُطرح في رياض العلم الغرائب، وصدق من قال “إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب”13)!!( فـ”الواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب من السلامة له إن شاء الله”14.
وعنده يَخشى المرء من آفة أخرى من آفات النفوس وهي داء الكبر وحب الظهور الذي يقصم الظهور، وقد قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله لما أورد مفاسد البدعة فقال: “مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع، وفوات سلوك الصراط المستقيم، وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع حسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله: (ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه)”15.
ومن الآفات التي تدل على علة في النفس عند حلول الحوادث خاصة: آفة الاستعجال16، حيث تظهر العجلة في الأقوال والأفعال والتصرفات إلا من رحم رب الأرض والسماوات، مما يثمر الاستهانة بفقه المآلات، والغفلة عن أنه “مجال للمجتهد صعب المورد”17 إذا لم يُحكم أمره صارت البليات.
كما يجب الحذر عند هذه الآفة من السرعة في تقدير المصالح الراجحات لأن “التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى تتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال”18.
نعم، هناك فرق بين المبادرة والاستعجال19، إلا أنه لا ينبغي أن يُختلف في أن فتح باب المبادرة دون قيد ولا شرط ليس محله عند (تسارع الأحداث وتصارعها)!!
فاعلم يا رعاك الله أنه من طبيعة البشر التي جبلوا عليها: الاستعجال، يقول تعالى: (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية: “والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك، فقال الله تعالى: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}؛ لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر؛ ولهذا قال: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي} أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني: {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}”20.
هذه إشارات لبعض آفات النفوس أحببت التنبيه عليها ونُصح نفسي بها أولا؛ خرجت مخرج التذكير والعظات عند حلول الفتن والشبهات، راجيا من الله تعالى أن يجنبنا الفتن المدلهمات، وأن يعيننا على التبصر في الأمور كما هي، وأن يوفقنا للأخذ بالضوابط النيرات، والقواعد المحكمات، دون استعجال ولا توان عن خدمة شرع رب الأرض والسماوات.
……………………………………………
1. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 4/50.
2. وأستحضر هنا قولة للإمام الألباني رحمه الله ذكرها في معرض بيانه لما يستفاد من حديث (الذين كانوا يسبحون بالحصى) وهو عند الإمام الدارمي رحمه الله في سننه بالسند الصحيح حيث قال: “ومنها: أن البدعة الصغيرة بريد إلى البدعة الكبيرة، ألا ترى أن أصحاب تلك الحلقات صاروا بَعدُ من الخوارج الذين قتلهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب؟! فهل من معتبر؟!” السلسة الصحيحة 5/11 عند الحديث رقم:2005.
3. المدراج 2/314.
4. منهاج السنة لابن تيمية رحمه الله 8/335.
5. المناظرة الفقهية للعلامة السعدي رحمه الله 10/292.
6. الفتاوي لابن تيمية رحمه الله 10/292.
7. جامع بيان العلم 1/571.
8. الاعتصام للإمام الشاطبي رحمه الله 2/176.
9. جامع بيان العلم 1/570.
10. وانظر غير مأمور عند هذا الأمر ما أورده الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح ص:252 تحت فصل: “الفرق بين حب الرئاسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله”.
11. تعظيم الفتيا لابن الجوزي رحمه الله.
12. الاعتصام 1/113.
13. هذه مقوله الحافظ ابن حجر رحمه الله في حق العلامة الكرماني رحمه الله لما تحدث عن مسألة حديثية أغرب فيها، انظر الفتح 3/564.
14. من قالات الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة 41.
15. اقتضاء الصراط المستقيم 2/611-612.
16. وليس القصد الركون أو الخَور والخذلان بحال، بل إن أهل العلم قالوا: “المنهي عنه شرعا لا يعامل معاملة المعدوم حسا”، ولكن العبرة بالعمل وفق الشرع والقواعد الأثرية الحسنى، فإن ذلك هو الواجب إضافة إلى أنه محمود العقبى.
17. قالها الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات 5/178.
18. كما قال العلامة الشنقيطي رحمه الله صاحب الأضواء في رسالته المصالح المرسلة ص:154.
19. وانظر غير مأمور ما أورده الإمام ابن القيم رحمه الله في خصوص ذلك في كتابه الروح ص: 258 تحت فصل: “الفرق بين المبادرة والعجلة”.
20. تفسير القرآن العظيم 4/563.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *