الأنثوية1 – بذور المشكلة د.البشير عصام

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه.

ما أكثر الشعارات الكاذبة في هذه الحضارة الغربية الحديثة! وما أكثر المفاهيم التي يقع تنزيلها على وجه يناقض معانيها الأصلية!

باسم الحرية تُستعبد الأمم “المارقة”، وباسم الديمقراطية يُنشر الظلم بين الشعوب، وباسم حقوق الإنسان تنتزع إنسانية الإنسان..

وباسم الأنثوية تدمّر الأنثى.. ويدمّر معها الرجل والأسرة والمجتمع، والحضارة كلها.

إن الأنثوية ليست حركة حقوقية، ولا فكرة فلسفية تجريدية، بل هي “إيديولوجيا شمولية”.

ومثل جميع الإيديولوجيات فإنها تنطلق من منطق داخلي متسق مع نفسه، ولكنه ليس بالضرورة متسقا مع ما حوله (سيأتينا أن الأنثوية تناقض الطبيعة، وترفض بدهيات الواقع)، وهي تسعى إلى فرض هذا المنطق على المجتمع كله، ليصبح شبكة القراءة الوحيدة الممكنة في الفكر والثقافة (سيأتينا أيضا أن الأنثوية الحديثة تتميز بقدر هائل من رفض الآخر، الذي تعده دائما خارج التاريخ)، وتعمل على تكييف الواقع الاجتماعي –ولو بقوة القانون– ليلائم مقتضيات الوعي الذي تفرضه – وإن كان زائفا (سيأتينا كذلك أن الأنثوية تتحكم في الإعلام والتعليم والسياسة، وتستثمر ذلك في النشر الأفقي والعمودي لأفكارها).

ولأنها شمولية فهي تتمدد في جميع المجالات، من الاقتصاد والسياسة والفن والثقافة والتعليم والإعلام واللغة؛ وعلى جميع المستويات، من الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والتجمعات الدولية. ثم هي تستعمل أساليب الأنظمة الشمولية، فتحتكر الخطاب الثقافي والسياسي، وترفض النقد والمعارضة، وتضطهد المخالِف بل تُشيطنه (فالذي ينتقد الأنثوية هو بالضرورة “ذكوري ماضوي رجعي متخلف معادٍ للمرأة”، ومن ينتقد زواج المثليين مثلا عدوّ للحرية؛ كما أن من ينتقد الصهيونية معاد للسامية، ومن كان ينتقد الشيوعية معاد لحقوق العمال والفقراء..!).

لقد أصبحت الأنثوية من أبرز المذاهب الفكرية المؤسِّسة للحضارة الغربية الحديثة. وقد بلغ تأثيرها الفكري إلى درجة تغيير صورة المجتمع الغربي، وتدمير العلاقات التقليدية داخل الأسرة، وتغيير لغة الخطاب الإعلامي والسياسي، بل إلى تغيير القوانين والأعراف السياسية الحاكمة في الغرب. ثم لا تزال هذه الأنثوية تغيّر جلدها مرارا، من أنثوية تطالب بحقوق المرأة، إلى أنثوية تطالب بالمساواة التامة مع الرجل، إلى نيو-أنثوية تلغي الرجل وتشَيطنه وتدمر الأسرة وتضع يدها في يد الأقليات الجنسية، التي يراد لها أن تكون مستقبل الإنسان الحديث. ولا تزال الأنثوية مع ذلك كله، تطلب المزيد!

ولنا أن نتساءل: كيف وصل الغرب –ونحن في دربه سائرون- إلى هذا التغول الأنثوي الرهيب؟

بدأت القضية بالمطالبة بالمساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، وكان ذلك بعد استقرار الحداثة في أوروبا، وانتشار ثقافة حقوق الإنسان التي أُعلن عنها رمزيا من طرف الثورة الفرنسية في ما سمّي “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” عام 1789، وذلك بعد عقود من المخاض التأصيلي عند فلاسفة الأنوار.

إلا أن الحداثة الظافرة المتشبعة بحقوق الإنسان، كانت مع ذلك متوجسة من حقوق “المرأة”، لأن الغالب على النساء كان الالتزام الديني والمحافظة على القيم التقليدية، فكان وجود المرأة في أعلى هرم السلطة السياسية مهدِّدا لقيم الحداثة المصادمة للدين. ولذلك لم تقبل الحداثة بسهولة منح الحقوق السياسية للمرأة، فاضطرت الأنثوية الأولى إلى النضال من أجل حصول المرأة على الحقوق المدنية والسياسية التي حصل الرجال عليها بعد الثورة.

كانت الأنثوية في أصلها إذن حركةً حقوقية، تتبنى مطالب واضحة متعلقة بالحقوق السياسية للمرأة. ثم حدثت ظروف اقتصادية وسياسية متعددة في أوروبا، أدت إلى ظهور كتاب “الجنس الثاني” لسيمون دو بوفوار. في كتابها هذا، تضع المؤلفة البذرة الأولى لكثير من الانحرافات الأنثوية التي ستأتي في العقود التالية (معاداة الرجل وفي الوقت نفسه احتقار المرأة، مطالب المساواة التامة إلى درجة الهوس في ملاحقة التنميط الجنسوي، الربط بين الأنثوية والمثلية، تضخيم جانب التربية في التفريق بين الجنسين على حساب جانب الطبيعة،..).

ولكن لم يكن لهذه البذرة أن تنمو، ولم يكن لأفكار سيمون دو بوفوار أن تعرف هذا الانتشار الجماهيري الواسع، ولا أن تتحول المؤلفة إلى أيقونة النضال الأنثوي بامتياز، لولا انتفاضة ماي 1968.

لقد كانت ثورة ماي 1968، اللحظةَ الثالثة لتخلُّص أوروبا من الدين المسيحي في العصر الحديث، وذلك بعد لحظتَي الثورة الفرنسية في نهاية القرن 18، والثورة البلشفية في بداية القرن 20؛ فقد مارس الثوار خلال الانتفاضة، والفلاسفةُ التفكيكيون المنبثقون منها فيما بعد، جميع آليات التفكيك والهدم للبقية الباقية من القيم الدينية التقليدية في العقليات الأوروبية. وكان على رأس القيم التي تمّ إسقاطها: السلطة، كيفما كانت. سلطة رجل الدين على أتباعه، والبرجوازي على البروليتاري، والأستاذ على تلاميذه، والأب على الأسرة، والزوج على زوجته، والرجل على المرأة. وبالمقابل مُجّدت المساواة، ورفعت فوق القيم جميعها: المساواة بين الرجال والنساء، بين الآباء والأبناء، بين المثليين والمتغايرين، إلخ. والشيء الوحيد الذي سلِم من هذا الجهد التفكيكي هو السوق، والنزعة الاستهلاكية الطاغية.

في هذا الإطار –أي ما بعد 68– طورت الأنثويةُ مطالبها إلى مجال تحرير الجسد، عبر السعي القانوني إلى إباحة تحديد النسل، ورفع تجريم الإجهاض، وتيسير إجراءات الطلاق، وصولا إلى تحرير الجنس، وإشراع أبواب المتعة الجنسية الليبرتارية.

في سنوات التسعينيات، أخذت الولايات المتحدة المشعل الأنثوي من أوروبا، مع إضافة بُعدَين اثنين:

أولهما: تكنولوجي، بفتح أبواب النيابة في الحمل، والرحم الاصطناعية، وتقنيات تخزين البويضة، وغير ذلك مما عدّته الأنثويات نصرا عظيما في مجال تحرر المرأة من “معاناة” الأمومة، لتصبح مساويةً للرجل فعلا، وفي كل شيء.

والثاني: فلسفي نظري، وهو منطلِق من كلام سيمون دو بوفوار عن أثر البيئة في تشكيل الجنسين، لكنه ذهب في ذلك إلى أبعد الحدود، فأنشأ ما يسمى نظريةَ النوع (الجندر)، التي تفرق بين الجنس (البيولوجي) والنوع (الثقافي)، وتضيف لذلك أيضا التوجه، أي الميل أو الاختيار الجنسي.

وقد وضعت الأنثويةُ –مسلحةً بهذه الترسانة النظرية– يدها في يد الأقليات الجنسية المختلفة، وانطلقت تمارس عن طريق التعليم والإعلام والفن والأدب، مهمّةَ إعادة تشكيل الوعي الإنساني وفق فلسفتها الخاصة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *