يعتبر كتاب “اللسان المعرب عن تهافت الأجنبي على المغرب” لمؤلفه العلامة المؤرخ أبو عبد الله السليماني من الكتب الرائدة التي بحثت في أساليب التحديث والتطوير في البنية الاجتماعية والثقافية والدينية المغربية لمواجهة عوامل التخلف التي قادت لغزو المغرب خاصة والشمال الإفريقي عامة، والتي أرجعها في الأساس إلى عدم التمسك بشرع الله الذي كان سبب عز من سبقهم من الأسلاف، فلما نسوا تاريخهم، وتخلقوا بأخلاق أعدائهم، تسلطوا عليهم وسخروهم لخدمة مصالحهم كما جاء في تمهيد الكتاب.
وقد تطرق الكتاب للهجمات التي شنت على شمال إفريقيا من قبل الدول الأوربية منذ القرن السادس عشر، والتي انتهت باحتلال الجزائر ثم تونس وفرض الحماية على المغرب، مناقشا تبعات ذلك الاحتلال، وكيفية مناهضته، وذلك من خلال نشر التعليم العصري، وكل ما يتعلق بالحرية والمدنية العصرية، وما لزم ذلك من المعاهد والمؤسسات الاقتصادية والمالية دون السقوط في الفخاخ التي ينصبها لهم المستعمر لصرفهم عن مبادئهم وعقيدتهم إلى غاياته المادية والاستغلالية.
ومن المعلوم أن المؤلف درس بالقروين، وسافر متاجرا إلى تلمسان، وهناك أسس ناديا ثقافيا بالمدينة من المثقفين والأعيان من أجل نشر أفكاره التحررية على نطاق واسع، ولما رجع إلى فاس قام بتأسيس مدرسة حرة بها سنة 1340، وقد توفي رحمه الله بتاريخ 13 حجة الحرام 1344هـ.
وتقديرا لمجهوده الفذ سواء هذا الكتاب (الذي انتهى من تأليفه بمدينة فاس في عاشر محرم الحرام فاتح سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف (أواخر 1911))، أو في غيره من القصائد والدروس والأفكار التي ما تزال قابلة للنقاش إلى يومنا هذا، نقدم للقراء ما مهد به كتاب “اللسان المعرب عن تهافت الأجنبي على المغرب”:
“أيها الناطق بالضاد المجبول على مقارعة الأضداد، طالما اتخذت الجد لزاما فاختارك الأجنبي إماما، كنت الآمر المطاع قبل أن تتعود الغش والخداع، كنت صاحب الفخر والشان على عهد السلمي عبيدة بن عبد الرحمان، أما بلغك حصاره بلاد الغال، وما فعلته حماته الأبطال، إذ مقدمتهم في نهر الروانس طافحة، وساقهم بأعالي جبال البرينه خيولها ضابحة، أنسيت تاريخ أسلافك، وتخلقت بأخلاق أولائك، أو طال عليك الأمد فقيست، أو شغلك خصمك فنسيت، أو أثرت فيك دسائس الدخيل، وأنت الأصيل النبيل، لا أتعجب لما ظهر السبب.
أجل نبذت أوامر الكتاب ونواهيه ظهريا، فتفرقت بك السبل وكان أمرا مقضيا، فصرت من أحرص الناس على حياة، ونضب عن جبينك ماء الحياة، شغلتك السمسرة والشطارة، وخصمك يدرس علم الطيارة، ألهاك نقر المثاني وملازمة البيوت، وخصمك عاكف على صب المدافع وسبك السيوف، تلبست بالغش والتدليس، ولم تحفل بتصفية المعادن وأنواع التقطير والتكليس.
وبالاختصار نقصت من المعارف بقدر ما زاد خصمك، وضيعت من القوة بقدر ما عتا ضدك.
ها هو يدوس عرينك، ويذل عزيزك، يناشدك الرجوع إلى جادة الطريق والإقلاع عن الظلم الغسيق، مؤملا صلاحك لنفعه، وكمالك لوجره، واستقامتك تحت أمره، فيا قومنا جدوا في أمركم لتجدوا، وموتوا في مصالح وطنكم لتحيوا، واعرفوا أمتكم قبل أن تنكركم، واحفظوا بلادكم قبل أن ترفضكم، وانظروا حال من ينازعكم القرار والهدوء، في الآصال والغدو، وعاملوهم بمثل ما يعاملونكم به، واهرعوا للإحراز على ما يقصدون إليه، ألم يان لنا الإقلاع عن الرذائل وارتكاب الفضائل.
ألم يكن أسلافنا في قوة وبأس، وعز أقعس، كلمتهم مسموعة، وأفرادهم مجموعة، فتحوا الممالك فحكموها وبسيرة العدل جمعوها وما ظلموها، فدانت لهم الرقاب، وأقبل عليهم النصر من كل باب، جابوا البلاد ودوخوها، ونشروا فيها ديانتهم الحنيفية التي نصروها، من أوساط الصين وسد ياجوج، إلى تخوم إفريقيا من منازل الزنوج، ومن جزائر جاوا الجنوبية، إلى البلاد المجرية من القارة الأوربوية، وقبضوا على أزمتها وبثوا الصون في أرجائها، في ظل الأمن تحت راية الاستعداد والأنفة من الاستعباد، نالوا ذلك باتباع كتاب الله والعمل بسنة رسول الله، لا مبدلين ولا مغيرين ولا مرخصين ولا مؤولين.
وحيث قضي على هذا الخلف بالحرمان، لارتكابهم ما خبث وشان، قيض لها مترفيها ففسقوا فيها فذلوا بعد العز، وأهينوا بعد الرفعة، وتأخروا بعد التقدم، وذاقوا علقم الفراق بعد شرب كاسات الوفاق، تعودوا أن يعتبروا التصاغر أدبا، والتذلل لطفا، والتمشدق فصاحة، واللكنة رزانة، والرضاء بالإهانة تواضعا، والإقدام تهورا، والحمية حماقة، والعصبية مكابرة، والشهامة شراسة، والإفصاح بالحقائق وقاحة.
والبحث في المصالح العمومية فضولا، والكيمياء فرية، والاختراعات ادعاء، والرياضة زندقة، ومع هذا فأراهم يفاخرون بأساطين تلك العلوم، الذين حققوا منطوقها والمفهوم، إذ كثيرا ما يطرون الفخر الرازي، ويتبجحون بالغزالي، ويغالون بابن رشد، ويعجبون بالفارابي، ويفخرون بابن سينا، ويمدحون ابن تيمية، فهؤلاء الأعلام مصابيح الظلام هم الذين ترجمت الأجانب كتبهم الرياضية والحكمية والطبيعية وأخذوا منها محاسن تمدنهم.
ومفيد قوانينهم وآداب أخلاقهم ومعارفهم وجدهم واجتهادهم، فمنذ عكفوا على تدريسها واستنزال نواميسها عادوا كما انفتح لهم باب من أبوابها وانبلج لهم نوع من أنواع فنونها تتبعوا غضونه، واجتنبوا غصونه، إلى أن عادوا يطيرون في الهواء ويمشون على متن الماء، وينسفون التلال ويخرقون الجبال، ويقلبون الآكام وهادا، ويبسطون الربى مهادا، ويجعلون القفار بحارا، ويحيلون البحار بخارا، ويسمعون من بالمشرقين، أصوات من بالمغربين، ويستنزلون ببصرك أنأى الكواكب، ويعظمون في عينك أوهى العناكب، ويجمدون الهواء، ويلينون الحصباء، ويستحثون الأنواء، ويزنون الضياء، ويستشفون خبايا الأحشاء، ويستكشفون خفايا الأعضاء، حتى يخال أنهم جن سليمان، بدوا في هذا الزمان.
فيا أيها الشبان، من زيد وعمر وفلان وفلان، هلموا يا فتيان الكريهة، وشبان الصنيعة، وأحلاس الخيول، وأمطار السيول، وأنصار الرسول، -تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم- وهبوا من غفلتكم واستيقظوا من نومتكم، وانصروا الله ينصركم، واهرعوا للدفاع عن عطنكم وإصلاح وطنكم، إن الوطن بالفضائل يحيى، وبالرذائل يفنى، وباختيار الأمناء من أحرار الرجال يعز ويبقى، وبالإذلال يذل ويشقى، فحيا على الاتحاد، حيا على السداد، حيا على الإصلاح حيا على الفلاح.
فلنتحد تحت لوائه ولنجتهد في إعلائه، ولنصخ لندائه، فاتحاد الأمة قوة لا تقاوم، وإعلاء شأوها لا يكون إلا بالاستعداد، ولا استعداد في هذا الزمان إلا بالاطلاع على ما عند الأمم الراقية في معارج الحضارة من الصناعات وضروب المخترعات، فبعدما كان السلاح السيف والرمح والنشاب، صار اليوم المدفع والبارودة والديناميت، وبعدما كانت المراكب تسير بقوة الرياح وتصنع من الأخشاب صارت تسير بقوة البخار وتدرع بالحديد والفولاذ.
فعلينا إذا أردنا سلامة ديننا ودنيانا أن نتحدى خطواتهم، في تعلم تلك الصناعات المفيدة، ونراجع تلك العلوم الرياضية التي قام بها السلف من علماء بغداد وقرطبة، وعنهم أخذها هؤلاء الأرباويون، وفقدت معارفنا من بيننا.
أليس من الواجب أن نستردها ونقول: بضاعتنا ردت إلينا، ونعمد لتلك العلوم فنترجمها إلى لغتنا العربية كما فعل أسلافنا في صدر الإسلام ونسير على المحجة التي ساروا عليها، مختارين من معارفهم صالحها ونافعها، مما لا يخالف آداب شرعنا، تاركين مفاسدهم المنافية لآداب ديننا وعوائدنا، ونستعد للطوارئ بما يقاومها، فنكون حينئذ قد قمنا بواجب الاستعداد والله الهادي لأقوم طريق.
ولا يعزب عن شبابنا أن أسلافنا هم أرباب الاختراعات البالغون فيها الغابات، فقد فتح السلطان محمود بن سبكتين الغزنوي بلاد الهند بصواعق النفط والبارود في القرن الرابع، وفتح الموحدون بلاد سجلماسة بصواعق البارود أيضا، وأمم أوربا إذ ذاك جامدة في زوايا الخمول، والآن جاء دور الأورباويين فسبقونا في واجبات وفلقونا في مضمار الفنون السياسية والتهذيبية، ونحن لا زلنا واقفين في الدائرة التي سنها لنا الخمول منذ أزمان، أليس من العار أننا فارقنا التمدن الإسلامي والأخلاق والعادات التي كان عليها أسلافنا، ولم نحفل بهذا التمدن العصري فبقينا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة، وإليك الحضارة والتمدن الذي كان عليه سادات الأمة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده” (انتهى منه بنصه؛ ص:04-06).