التطرف في اللسان العربي مشتق من “الطَّـرَف” وهو “الناحية”، أو “منتهى كل شيء”.
جاء في المعجم الوسيط: ” تطرف أتى الطرف ويقال تطرفت الشمس: دنت للغروب.. وتطرف في كذا جاوز حد الاعتدال و لم يتوسط “.
فالتطرف بصفة عامة هو كل ابتعاد عن المركز تجاه الطرف، بغض النظر عن اتجاه تلك الحركة، و بعبارة أخرى كل ميل عن الوسطية والاعتدال ذات اليمين أو ذات الشمال فهو تطرف، قال بعض السلف: “ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر”.
قال ابن القيم: “و قد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه سول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه” (إغاثة اللهفان).
وما أجمل قول الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصْدِ الأمور ذميم
وإذا كان التطرف بالمعنى الشائع عند عموم الناس والمتمثل في الغلو والتعدي، والذي نجم عنه تكفير المسلمين وإزهاق أرواح الآمنين، وتفجير السيارات وإسقاط الطائرات واستهداف السفارات واختطاف البعثات.. قد قوبل بما يستحقه من البيان والتحذير والتأليف والمحاضرة والتنفير، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر دوليا، وأحداث السادس عشر من ماي الأليمة على الصعيد الداخليّ، حيث أفرز ذلك إجماعا وطنيا ضد كل دعاة الغلو والتكفير ومظاهر الإرهاب، فإن هناك لونا آخر من التطرف أخذ ينمو على ظهر التطرف الأول ويعيش على آثاره المشئومة، فهما وجهان لعملة واحدة، بل إن هذا الأخير سبب أساس في ظهور تطرف الغلو وقد نقول إن “كلا الطائفتين -الغلاة في الدين والعلمانيين- تشتركان في إثارة حفيظة الطائفة الأخرى أو قد يكون هناك طرف ثالث يدفع بكلا الفرقتين للمواجهة والصدام، من أجل حسم أمر التدين وسد أبوابه والتضييق على المسلمين في أداء شعائرهم، أو إظهار الفساد عن طريق الغلبة غير المتوازنة بين القوة المعنوية والمادية التي يمتلكها الطرفان”.
وفيما يلي بعض صور الوجه الثاني للتطرف العلماني لعلـِّي أسهم في تحذير الأمة من شره و تبصيرها بضرره وإيقافها على خطره فإلى شيء من البيان.
تهجم العلمانيين على شعائر الإسلام
فــمن مظاهر هذا التطرف السعي في محاربة كل فضيلة واستبدالها بكل رذيلة، وهكذا أخذوا ينشرون في الأمة ثقافة التعري والانحلال والمجون والإباحية حتى أضحى الحجاب عندهم تخلفا ورجعية والسفور تقدما ومدنيَّة، ولتتعرى بنات المسلمين ولتختلط بالرجال ولتُنتهك أعراضهن وليُمت الطُهر والعفاف ولتُعدم الغيرة والشرف مادام كل هذا ينشر خلف ستار “الدعوات الآثمة، والشعارات المضللة باسم حقوق المرأة، وحريتها، ومساواتها بالرجل .. وهكذا، من دعوات في قوائم يطول شرحها، تناولوها بعقول صغيرة، وأفكار مريضة، يترجلون بالمناداة إليها في بلاد الإسلام، وفي المجتمعات المستقيمة لإسقاط الحجاب وخلعه، ونشر التبرج والسفور والعري والخلاعة والاختلاط، حتى يقول لسان حال المرأة المتبرجة: ”هَـيْتَ لكم أيها الإباحيون” (حراسة الفضيلة للشيخ بكر )
إن ما تُمطِر به الفضائيات المشاهد العربي المسلم من مظاهر العري والسفور باسم “الفيديو كليب” تارة وباسم “ستار أكاديمي” أخرى أو غير ذلك من الأسماء.. وإن ما تطالعنا به الصحف العلمانية في كل يوم من المشاهد الخليعة، مصورة وموصوفة لَمظهر بشع لتطرف جديد ما زال العديد يفضل التغاضي والسكوت عنه والتساهل معه، مع أن رائحته أضحت تزكم أنوف العقلاء فضلا عن أهل الاستقامة والطهر والعفاف ”إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ” النور.
والغريب أن القوم مع سوء صنيعهم هذا ما زالواْ يتباكون على حقوق المرأة لاهثين خلف أسيادهم من علمانيي الغرب، مع أن كل ذي لُبٍّ يعلم بداهة أن حقيقة تكريم المرأة عند هؤلاء ليس إلا تحقيرا وتضييعا لها في متاهات الحرية وإثبات الذات، وإغراقها في صراع مفتعل ضد أخيها الرجلّ، ليتعيش أصحاب النفوس المريضة والنيات الخبيثة على التطبيل لهذا الصراع وإذكاء ناره وإشعال أواره.
ومن مظاهر التطرف اللاديني تلكم الظاهرة التي تعتبر وصمة عار في جبين إعلام المسلمين، والمتمثلة في دعوة الناس لاقتراف الآثام وارتكاب المحرمات، كإشهار الميسر والقمار، والدعاية للكهانة والدعارة، والترغيب في الربا وغير ذلك من الموبقات مما أجمع المسلمون على حرمته و كل ذلك باسم التعارف والصداقة والمرح والربح والفوز واللقاءات “الحميمية”، ناهيك أيها القارئ الكريم عن التكسب من وراء الاستهزاء بالشرع وأحكامه، والدين وشعائره، علاوة عن الرسوم الكاريكاتورية المستهزئة بالدين الإسلامي والمتدينين به، كل ذلك على مرأى ومسمع من الجميع والله عز و جل يقول: ” لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ” المائدة.مظاهر التطرف العلماني
يزعم القوم الغيرة على الأمة ومصالحها العليا والسعي فيما فيه خيرها وتقدمها، وأنهم من سيقي الأمة بصنيعهم من الإرهاب والحقد والكراهية، وهم لعمر الله منبع هذه الآفات ومصدرها وما أبلغ قول الله في وصف أسلافهم: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ” فما أشبه اليوم بالبارحة وما أجمل قول الشاعر:
فَـَـوا عَجباً كم يدعي الفضل ناقص و َوَا أســفاً كم يُظهر النقص فاضلُ
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلــــت حــــتى ظُــن أني جاهلُ
فيــــا مَــــوتُ زُرْ إن الحياة ذَمِيمَة ويــــا نــفس جِدِّي إن دَهْرَكِ هازلُ
إن الهجمة الشرسة على مصادر المسلمين وثوابتهم والرامية إلى تشكيكهم في معتقداتهم من خلال وسائل الإعلام -مسموعة ومرئية ومكتوبة-، لا تعدو أن تكون صورة أخرى من صور هذا التطرف الجديد الذي تدعمه أياد خفية خارجية وجدت من أبناء المسلمين من يحمل هم الطعن في الإسلام والسعي للإجهاز عليه، ولكن الله حافظ دينه ومبق شرعه ولو كره اللائكيون والحداثيون.
فماذا بقي لهم بعد؟؟
فأما الرسول عليه الصلاة والسلام فلعنوه، وأما أبو هريرة فكذبوه، وأما البخاري فسفهوه وعن الحق حجبوه، وأخيرا قام “فارسهم المغوار” والشجاع الذي لا يشق له غبار ليختصر الطريق ويتوج المسيرة المشؤومة بالطعن في آي القران في رائعة النهار.
لعله طرق سمعك أيها القارئ الكريم بعض ما سوده القوم في هذا المجال و لنذكر على سبيل المثال:
– مقال “البخاري كان بينه وبين الحق حجاب” الأحداث المغربية 23 مارس 2002 م
– مقال “فجور فقيه ومالكيون بغير مالك” الأحداث المغربية 7 دجنبر 2001م في لمز صارخ للإمام القرطبي رحمه الله.
– قالت إحدى العلمانيات:
“ملعون من قال ناقصة عقل ودين أنت
ملعون من قال من ضلع أعوج خلقت”.
– مقال “عندما تكذب أمة على نفسها” الأحداث المغربية في ماي الماضي.
إلى غير ذلك من حلقات الخزي و العار التي يناصب فيها اللادينيون السفلة العداء للإسلام وأصوله.
لقد اختار بعضهم أن يمتطي بعض الشعارات ظنا منه أن تسوِّغ قبيح أفعالهم وذلك كقولهم:
-“ليس في الإسلام كهنوت”! وهي كلمة حق أريد بها باطل، والغرض منها هو تجريء الناس على القول على الله بغير علم، والجرأة على الفتوى من غير أهلية، ومن تَمَّ يتم عزل العلماء، وتهميش دورهم في حياة المسلمين، ليخلو الجو ويصفو لبني علمان لينفثوا في الأمة سموم التغريب و أمراض التبعية والتقليد الأعمى، وينحصر دور الدين في المساجد.
-“كلنا مسلمون”! وإن مارسنا الكفر ودعونا إليه، ومن أنكر أو استنكر فهو “رجعي، ظلامي، ماضوي” إن لم يوصف بالطابع العالمي المعروف “إرهابي”.
أما سخافاتهم فلا تنقضي وأهمها أن باب الاجتهاد في الدين مفتوح أمام كل الناس، ولو تكلم شخص من عامة الناس في الطب أو الهندسة أو الكيمياء أو غيرها من العلوم والمعارف لصرخ به القوم، بدعوى أنه لم يحترم التخصص، فيا قوم كيف تحكمون؟ وبأي عقل للأمور تزنون؟ وما لكم على الحديث في علم الشرع تتهافتون؟ وللفتاوى بغير فهم تتصدرون؟ وعلى الله بغير علم تقولون؟
ولله در القائل:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبني وغيرك يهدم
فلو كان سهما واحدا لاتقيته *** و لكنه سهــم وثان وثالث
إن القضاء على التطرف لن يؤتي أكله إلا إذا حُورِبت كل مظاهره وكافة صوره إفراطا وتفريطا، غلو وتقصيرا، مع الأخذ على أيدي العابثين بمقدساتنا وفسح المجال الإعلامي للعلماء للرد عليهم و فضحهم، سعيا في تحقيق قوله عليه الصلاة والسلام: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”. (البيهقي في المدخل و الخطيب في شرف أصحاب الحديث)