لقد تأثر اليهود بالعرب تأثرا كبيرا منذ أول لقاء بينهما، تأثرا جعل اليهود يتخلون عن لغتهم العبرية تحدثا وتأليفا، وقد أرجع بعض الباحثين تكلم اليهود باللغة العربية لغلبة النفوذ العربي حيث تكلموها قهرا لا اختيارا، والدليل على ذلك في نظرهم أنه بمجرد انحسار مد الحضارة الإسلامية في العالم عموما وفي الأندلس خصوصا رجع اليهود لاستعمال لغتهم العبرية، والحقيقة أن في هذا الزعم نظر؛ لكون اليهود عاشوا حريتهم كاملة أثناء الحكم الإسلامي عكس ما كانوا يعيشونه قبله من أوضاع مزرية واضطهاد وتقتيل، وعليه يمكن بيان أسباب تكلم اليهود باللغة العربية في النقاط الآتية:
أولا: تأثر اليهود بالأخلاق العربية: وقد عرف أن المتأثر يتبع دوما المؤثر متابعة كاملة في لغته وزيه وتدينه، واليهود وإن تمسك بعضهم بدينه عصبية إلا أن كثيرا منهم أسلموا بفعل الأخلاق الإسلامية التي حرصت على العدل والتسامح ودعت إلى التعاون، حتى أن مصطلح الإسلامين كان إذا ورد في كتب الفقه القديمة يراد به “اليهود المسلمون”، فتأثروا بالعرب تأثرا بلغ بهم مرتبة الفخر عند التحدث باللغة العربية.
ثانيا: ثراء اللغة العربية: وهذا معطى يحاول الكثير تجاهله ولكنه يفرض نفسه بقوة، بفعل الدراسات اللغوية المقارنة، التي تبرهن على أن اللغة العربية لغة ثرية في مادتها اللغوية وواسعة وممتدة في اشتقاقاتها وجذورها المشتركة، وهي لغة تعبر عن جميع التمثلات البشرية بكافة تفاصيلها وتفرق في لغتها التركيبية بين وجوه بلاغية عديدة يستحيل أن تعبر عنها لغات أخرى.
ثالثا: ضعف اللغة العبرية: وهذا معطى تناوله كثير من الباحثين اللغويين باعتبار أن اللغة العبرية ظلت تعاني كثيرا في نصوص العهد القديم من غياب الحركات وعلامات الترقيم وإشارات الضبط والبيان، مما جعل من الصعوبة بمكان التعامل مع النص العبري القديم، فلجأ الكثير من اليهود لاستخدام اللغة العربية وحتى أولئك الذين تشبتوا بلغتهم العبرية ظلوا يستخدمون الأوزان والصور الشعرية العربية في كتاباتهم الشعرية والنثرية، ولولا ما قام به ابن ميمون ومناشة بن سروق ويهوذا بن داود حيوج ويونا بن جناح السرقسطي ويهوذا بن قريش وأبراهام الفارسي من جهود كبيرة لما ظهر النص المسورتي (Masoretic) ولما عرفه اليهود، بل إنه لا يغرب بنا لو قلنا: إنه لولا اللغة العربية لما استطاع اليهود اليوم أن يقرؤوا كتبهم الدينية، وذلك لكون اللغة العبرية والتلمودية لغة بسيطة جدا وقليلة المفردات ولا تتجاوز 10.000 مفردة، وهي بذلك لا تصلح للعلوم ولا للآداب، وكان على اليهود قديما البحث في المنهج الاشتقاقي العربي لاستخراج كلمات عبرية جديدة باعتبار أن العبرية أخت العربية، وهكذا دخلت العبرية آلاف الألفاظ من العربية لا تزال تستعمل حتى اليوم.
وتعتبر رسالة يهوذا بن قريش أبرز الرسائل التي تبين وتؤكد هذا التأثر اليهودي باللغة العربية وذلك من ثلاث جهات:
الأولى: كونها رسالة وإن جاءت بالحرف العبري إلا أنها كتبت باللغة العربية، فصاحبها وإن استعمل فيها الحرف العبري القديم إلا أنه كتب الحروف العبرية باللغة العربية.
الثانية: كونها رسالة جاءت تحض يهود فاس على تعلم اللغة العبرية وتؤنبهم على ترك استعمالها في صلواتهم وإقامة شعائرهم.
الثالثة: تعتبر رسالة يهوذا دراسة مقارنة بين اللغة العبرية والعربية وبيان أوجه ذلك الاشتقاق العبري من اللغة العربية ولذلك يعتبر يهوذا بن قريش من أوائل من وضعوا أساس النحو التنظيري وعلم فقه اللغات السامية المقارن.
ويهودا بن قريش لغوي من أهل تاهرت (القرن الرابع الهجري) ، كان متضلعا من اللغات العربية والعبرية والآرامية والبربرية والفارسية، وإن لم يبلغ في اللغة العربية رتبة التضلع وذلك لأسلوبه العربي البسيط إلا أنه حاول المقارنة بين اللغة العربية والعبرية والآرامية في رسالته التي عنونها بـ “رسالة يهوذا بن قريش إلى جماعة يهود فاس في الحض على تعليم الترجوم والترغيب فيه والتغبيط بفوائده وذم الرفض به” ويقصد بالترجوم ترجمة التوراة إلى لغات أخرى قصد الصلاة والعبادة، إذ كان اليهود قبل تدوين الترجوم يقرؤون التوراة في كنائسهم بالعبرية.
وتتألف الرسالة من مقدمة وثلاثة أجزاء:
الجزء الأول: في تشابه السرياني بالعبراني
الجزء الثاني: في باب الألفاظ الموجودة في المقرا من لشون المشنا والتلمود
الجزء الثالث: في اشتراك العربي بالعبراني في الألفاظ بأعيانها ومبادئ الحروف وأوساطها وأواخرها.
وقد حققت الرسالة أول مرة سنة 1857 على يد برجيس، ثم للمرة الثانية سنة 1950 مع ترجمة عربية ثم للمرة الثالثة سنة 1984 على يد دان باقر ثم للمرة الرابعة على يد عبد الرحمن السليمان، وتناولتها الطالبة كريمة نور عيساوي في رسالتها الجامعية “تأصيل الدراسات المقارنة في التراث اللغوي العبري” السنة الجامعية 2007/2008 تحت إشراف الأستاذ سعيد كفايتي، كما يعمل عليها تحقيقا ودراستها الصديق عبد الحق السعليوي في إطار بحث الدكتوراه بجامعة محمد الأول بوجدة لهذا العام.