دفاعا عن السنة النبوية الشريفة سلسلة الردود العلمية على خريج دار الحديث الحسنية “محمد بن الأزرق الأنجري” -2- منير المرود

المقدمة الثانية: الغرض من انتقاد الصحيحين:
إن الغرض من هذه الهجمة الشعواء التي يقودها كثير من المنحرفين ومن اغتر بهم -كصاحبنا- ضد الصحيحين هو إسقاط الاستدلال بالسنة بإسقاطهما، فإذا كان هذان الكتابان هما أصح كتب السنة كما هو مقرر عند العلماء الفحول، وأردت أن تطعن في السنة كليا، فمن البداهة أن تقطع الرأس لكي يتهاوى الجسد كله، والدليل هو أن أكثر المعلقين الذين يفرحون بمقالات الأستاذ هم ممن يتصيدون الفرص لينكروا السنة جملة وتفصيلا، حتى أنني أكاد أجزم أنهم لا يقرؤون جميع ما يكتب، لأنهم حتى وإن قرؤوا فإنهم لا يفهمون ولن يفهموا هذه المباحث العلمية المعقدة، ومع ذلك فإن مقالاته تصادف هوى في نفوسهم فيتبنون ما تحتويه من أباطيل ما دامت تنتقص من الصحيحين، فإذا صار الصحيح ليس بصحيح فما بالك بالمسانيد والسنن والمستدركات وغيرها.
المقدمة الثالثة: التيارات الفكرية المعاصرة في دراسة السنة النبوية الشريفة
تعرض الدكتور محمد عبد الرزاق أسود في كتابه (الاتجاهات المعاصرة في دراسة السنة النبوية في مصر وبلاد الشام) إلى اختلاف العلماء والمفكرين المعاصرين في تقسيم تلك الاتجاهات، حيث يظهر -لي والله أعلم- أن خلافهم المذكور هو من قبيل الاختلاف اللغوي والاصطلاحي لا غير، لذا سأختار ما رجحه صاحب المقال الذي جعل هذه التيارات أربعة أقسام :
الأول: اتجاه جمهور علماء الحديث
الثاني: الاتجاه السلفي
الثالث: الاتجاه العقلي وجعل من أبرز أعلامهم: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد شلتوت ومحمد عزة دروزة وغيرهم ممن تأثر بهم .
الرابع: الاتجاه المنحرف، الذي تمثله التيارات التغريبية والعلمانية والماركسية والحداثية .
وهذا -في اعتقادي- تقسيم علمي رصين يتفق مع الواقع أو يكاد، إلا أنني أظن أن هناك تيارا آخر يمكن إضافته إلى الاتجاه المنحرف، وهم أولئك الذين جعلوا من تضعيف ما في الصحيحين رسالتهم الأولى في الحياة، حيث يناضلون ويكتبون ويقاتلون ويستميتون من أجل بث سمومهم بين صفوف المسلمين، كما هو الحال بالنسبة لأبي رية وزكريا أوزون وأحمد صبحي منصور وعدنان إبراهيم ومحمد هداية والبيطري ومن صار على شاكلتهم وقلدهم في المشرق أو المغرب، لأنهم جعلوا من البخاري على وجه الخصوص عدوهم الأول، وبالتالي فلا يمكن أن نضعهم في خانة من ذكرنا من العقلانيين الذين يضعفون بعض الأحاديث الواردة في الصحيحين معا أو في أحدهما اجتهادا منهم تارة، وتأثرا بالواقع المحيط بهم تارة أخرى، فليست معركتنا مع من يضعف حديثا أو اثنين أو عشرة سواء في الصحيحين معا أو في أحدهما، إنما المهارشة والمناقشة، وأحيانا المفاحشة، مع من جعل من القدح في الصحيحين ديدنه والتسفيه منهجه، فمن كان هذا حاله وتلك طريقته فلا نشك في أنه يجب وضعه في خانة المنحرفين قطعا.
ونحن وإن كنا لا نوافق أصحاب المدرسة العقلية في كل ما ذهبوا إليه إلا أننا نلتمس لبعضهم العذر أحيانا فذلك مبلغهم من العلم، وهم لم يقصدوا -في اعتقادي- إلا تزيين صورة الإسلام وتنقيته مما شابه من خرافات العوام وشطحات المتصوفة، فخلطوا في اجتهاداتهم وأغربوا في آرائهم، متأثرين بالحضارة الغربية وبهرجتها التي أعمت عيونهم وأصمت آذانهم وعطلت عقولهم لما حصل لهم من انبهار بها وبزينتها.
المقدمة الرابعة: فسدت عقولهم فردوا سنة نبيهم
إن سبب الانحرافات التي تتعرض لها الأمة، والانزلاقات التي جرتها إلى المهالك، فسارعت في تقسيم جماعة المسلمين إلى فرق وأحزاب هو فساد عقول منتحلي تلك المذاهب حتى خرجت بهم عن جادة الصواب، فظهرت الخوارج والشيعة والقدرية وهم أصول الفرق الضالة، ثم نشأت المعتزلة وانتشرت فتنتهم بين الناس حين عطلوا صفات الله تعالى بدعوى مخالفتها لما دل عليه العقل.
فهم لم يعطلوا صفتي السمع والبصر مثلا إلا بعد أن شبهوا الخالق بالمخلوق، حيث قالوا: إن إثباتهما يقتضي المماثلة، وهذا نتيجة فساد عقولهم التي توهمت أن في إثبات هذه الصفات مشابهة كما ذكرنا، وبالتالي فليس هناك مخرج من هذا المأزق في نظرهم إلا ردها، على اختلاف بينهم في ذلك، تجده مبسوطا في كتب العقائد والفرق والنحل، فإذا سألتهم عن سبب ردهم لما وصف به الله نفسه في القرآن، أجابوك بأن ردهم لها غرضه تنزيه الباري جل شأنه من مماثلة الحوادث، فالنية في ظاهرها سليمة، لكن نتيجة فعلهم على عقيدة المسلمين كانت جد وخيمة.
فأين هو العقل في صنيعهم هذا حتى ينسبوا إلى التيار العقلي، حيث إنهم اختاروا الطريق المختصر والسهل، ولم يكلفوا أنفسهم عناء استخدام العقل لإثبات ما أثبته الله لنفسه كما يليق بجلاله وعظيم شأنه.
والمقصود من هذا المثال هو بيان وجه مشابهة ما يفعله القادحون في السنة، الرادون لها المعطلون لنصوصها، مع من عطل صفات الله تعالى، حيث إنهم لم يردوا تلك الأحاديث إلا بعد أن فسدت عقولهم وتعطلت حواسهم فردوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، كي لا يقلقوا خصومهم، وحكموا على أحاديث في أعلى درجات الصحة بالنكارة والشذوذ لا لشيء إلا لكونها لم تستسغها عقولهم، أو قل إن شئت عقول غيرهم، فسلكوا أيسر السبل لإرضاء المعترضين سواء كانوا من المسلمين الضالين كالشيعة أو من غير المسلمين كالنصارى والملحدين.
لهذا تجد صاحبنا ينقل توجيهات العلماء لتلك الأحاديث المشكلة عند من قلده، ثم لا يقبلها ويعرض عنها ويعتبرها من التكلف كما سنبين في ردودنا القادمة إن شاء الله.
فقل لي بربك، أي الفريقين أولى بنسبته إلى المنهج العقلي، أهم من يعطلونه ولا يستطيعون إعماله أمام الخصوم، فيستسلمون ويخضعون ومن دينهم وتاريخهم يستحون، أم الذين ينافحون ويجاهدون بالقلم واللسان للحفاظ على دينهم وسنة نبيهم، رافعين بذلك رؤوسهم لأن دينهم هو الدين الوحيد الحق في هذا العالم، ومنهجهم هو المنهج العقلي الوحيد الذي لا يعتريه التعارض ولا تلازمه الشكوك والظنون والتقلبات.
المقدمة الخامسة: ابن الأزرق بين تعطيل العقل وتقديسه
يلاحظ المطالع لمقالات الرجل أنه يقدس العقل البشري المعاصر تقديسا كبيرا، ولا أدل على ذلك قوله في مقال “التهافت”: (ألا وإن العقل البشري تطور عما كان عليه زمن الحفاظ والمجتهدين بشكل هائل، بفضل الكشوفات العلمية وارتفاع سحابة الأمية، حتى أصبح المثقف العادي يميز بين الحديث المقبول، والخبر المرذول، بالفطرة وبدائه العقول)، وقوله: (إنه عصرنا وما بعده أيها العقلاء، ستكون البشرية أذكى وأعلم من الذين مضوا، وستفهم كلام ربها وسنة نبينا بسهولة حرموها، وسيظل الجامدون المتعصبون للماضي التليد بإسرائيلياته وتخرصاته، المعرضون عن أنوار العلم وكشوفاته، أغبى الناس…).
لكنني في المقابل وجدت له مقالا قديما يعود إلى سنة 2005 يستدل من خلاله على ما تعتقده طائفته من جواز رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة عنونه بـ”ردا على رد في متاهات العدل والإحسان في ملفها الغيبي .. مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة أمر ممكن”، يعترف من خلاله بقصور العقل البشري عن إدراك وفهم بعض الظواهر والحقائق، حيث قال في المقدمة الأولى: (إن معارف العقل البشري محدودة بما توصله إليه الحواس الخمس…
فإذا أعلم بخبر لا تدركه تلك الحواس، حار أمره واضطرب رأيه، فانقسم إلى عقل معترف بالعجز، ماسك نفسه عن إصدار أي حكم، أو إلى عقل متكبر يسيطر عليه العجب والعناد، فينكر ما لا تعرفه حواسه ويجحد ما لا يدخل تحت طوقه.
إن العقل الأول عقل المومن، أو الكافر المتضلع من العلوم العصرية مع التواضع، فإن كثيرا، من الفيزيائيين وغيرهم من العلوميين، يقرون بأن العقل لا يمتلك القدرة على إثبات أو نفي ما لا تحصره حواس الإنسان.
وقد سلموا بهذه الحقيقة بناء على كثير من الفرضيات العلمية التي أنكرها كثير من “العقلاء” والعلوميين، ثم أصبحت أمرا بديهيا لا نزاع فيه، ككروية الأرض وحركة الشمس ..
وبناء أيضا على كثير من الظواهر الكونية المشاهدة، والتي يقف العقل عاجزا عن تفسيرها.
ينتج عن هذا أن الخوارق التي تنقل عن بعض الناس، ويستحيل إخضاعها للتجربة المخبرية، تقابل بالتسليم أو التوقف، أما إنكارها بدعوى عدم قبول العقل لها، فغرور وجهل مركب).
وليته تعامل مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم المنقول إلينا بالأسانيد الصحاح وفق ضوابط علمية دقيقة بنفس هذا المنهج القويم الذي تعامل به مع خوارق تنقل عن بعض الناس الذين قد يلبس عليهم الشيطان في كثير من كراماتهم، فإما التسليم بما صح من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم كما يليق بجنابه الكريم أو التوقف، أما الرد والإنكار فهو غرور وجهل مركب كما صرح بذلك صاحبنا المهذب.
وللحديث بقية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *