لو كانت لي دعوة مستجابة… عبد المغيث موحد

“بارك الله لك في الموهوب, وشكرت الواهب, وبلغ أشده، ورزقت بره” بهذه الكلمات السُّنية افتتح أحد الإخوة الوعاظ كلمته، وكنت يومها مدعوا للحضور مناسبة نسيكة, وكما كان اللفظ سنيا كان السمت كذلك أخ أعفى لحيته وحف شاربه استنانا بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، لا محاكاة لسيخ أو هندوس أو فلاشا بني صهيون وقد يجد المرء كلاما من قبيل التعريج على وصف الأخ الداعية ضربا من الفضول وحشو الكلام، ولكن للوصف علاقة وثيقة بما كان، وبما أحببت أن أنقله إلى من يقاسمنا خندق الحق وهمّ الدفاع عن أهله ذلك أن دعاء كفارة المجلس تخلله الدعاء لملك المغرب والمغاربة بالتأييد والتوفيق والتمكين، فالتفت إلي أحد الأصدقاء وعيناه تفيض من التعجب فقد بدا عليه أنه استغرب بل استبعد أن يدعو “بولحية” مع السلطان، وربما سوّلت له نفسه أن الدعاء خرج مخرج التقية والمداهنة، وربما دار في خلده أن الظرف ظرف طارئ، استوجب ذلك دفعا لمكروه محتمل أو تهمة مفصلة تكون هدية عيد فوعيد! كان ظني في محله فقد همس في أذني مستفهما بالوكالة: “أفي القنافذ أملس؟!”. 

فقلت له مازحا: “أوزغة” معنا في المجلس؟!”.
إن مثل هذا الكلام ومثل هذا الإحساس، لا يمكن أن يمر دون وقفة بل وقفات لنتحسس منه ومن خلاله حجم الفجوة التي أصبحت محشورة بين الحق وإمكانية معانقته، وكذا مدى قوة نفاذ الباطل في قلوب الخلق واستفحال آثاره على جوارح الناس.
وعليه، كان من الضروري مبادلة النظر بالنظر، ومقارعة الرأي بالرأي، نشدانا للصواب، وإضافة نوعية لرصيد الأمل, الأمل في دمغ الحق للباطل حتى يكون زاهقا زهوقا، وهذه لا شك قضية على قدر ما تبدو يسيرة، على قدر ما هي صعبة، ذلك أن هناك فئات من الناس استمرؤوا المحنة وتفيؤوا منها ظلالا أنعشت هوسهم وحققت سراب رغباتهم، وهم ينشطون في السعي ابتغاء النفخ في نيران الفتنة ورماد الفرقة، وتلبية لسعيهم يركبون صهوة ادعاء الصلاح والدعوة إلى حضيرة باطلهم، وحيثما وجد الحق تجدهم قد شمروا على سواعدهم لاستئصال شأفته، والتلبيس على الخلق حتى يحال بينهم وبين فطرة الله التي فطر الناس عليها فحسبنا فيهم قوله تعالى: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ” البقرة.
إن أهل الإسلام حين يرفعون أكف الدعاء لإمامهم وخليفتهم لا يفعلون ذلك مداهنة ولا تقية إنما هم في ذلك يقتفون آثار أسلافهم جيل الصحابة والتابعين يوم كان الواحد من أهل العلم والصلاح يوثر على نفسه ويقول: لو خصني الله بدعوة مستجابة لجعلتها في السلطان بغية صلاحه ونصرته بالحق ومن أجل الحق, وأهل الإسلام يعلمون أكثر من سواهم أن في هذا استجابة لأمر الله ورسوله وأن ذلك سلوك تعبدي يثابون عنه في الفعل ويلامون عنه حالة الترك.
إن أهل السنة لا يؤسسون علاقاتهم مع من يسوس أمورهم وإمارتهم على عقد دنيوي صرف، شروطه تنظيم عملية الإشباع من نعمتي الله: نعمة الإطعام من الجوع ونعمة الأمن من الخوف فحسب، بل هم يجعلون هذا العقد يدور في فلك عقد أوسع وأوثق وأرحب إنه العقد الديني، ولذلك تجدهم حالة النعماء يشكرون شكر الأحرار, وحالة الضراء يصبرون صبر الأبرار، وهم بين هذه الحالة وتلك يرجعون المرة تلو الأخرى ليُجددوا هذا العقد، وليستشعروا قيمة المسؤولية أمام العباد ورب العباد ساعة احتمال إمكانية إخلال البعض بشروط هذا العقد، وشق عصا الطاعة والخروج على السلطان بالكلمة أو بالسيف, ثم إن على الذين يحبون أن يرموا بشباك المزايدة ومناخيل الظن في هذا الموضوع أن يتذكروا وعلى الدوام أن علاقة المغاربة المسلمين أو المغاربة الإسلامويين -كما يطيب للبعض أن ينبز- مع خليفتهم هي علاقة أوثق عروة وأدوم مودة، ذلك أنهم يعلمون أن علاقتهم هذه أو عقدهم هذا هو التزام شرعي، من هلك دونه مات ميتة جاهلية, نعم إنها الطاعة لله والبيعة لرسوله ولأولي الأمر من العلماء وحكام المسلمين, ثم إن على أهل المزايدة وهم يجترون ما حوته ذاكرتهم أن يقروا ويعترفوا أن هذه البيعة لا نظير لها ولا أثر في بطون دساتيرهم وتشريعاتهم الوضعية الوضيعة، وإنني كغيري أستبعد أن يكون في مقدور أحدهم ومهما كانت درجة صفاقته اعتلاء منبر من منابرهم ليحدث الناس عن سبق “ماركس” أو “لينين” أو “دوتوكفيل” في التنصيص على هذا النوع من العقود الشريفة في ديباجة قوانين “البرولتاريا” العمالية أو الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج والمال.
لهذا لا لغيره تتسع فجوة الفروق بين أهل السنة وغيرهم، فحينما ينادي أهل الحق بضرورة أن يسود مَلكنا وأن يقيم حدود الله، فإنكم أهل الثورة الحمراء والصفراء تريدونه أن يسود ولا يحكم، أي حينما نريده نموذجا من نماذج أهل العدل والصلاح تريدونه أنتم بل تريدون ملكيته نموذجا لملكية اسبانيا وبريطانيا، ليتأتى لكم والحال كذلك، ما كان قد نادى به صاحب الثورة اللادينية يوم كان آذان الفجر يقض مضجعه فاقترح أن يرفع الآذان باللغة التركية، ومن يدري؟ فقد يحلم الأحفاد بإعادة أحقاد الأجداد.
ولربما أسمعونا الآذان بالفرنسية، وأقاموا الصلاة بالاسبانية، وتلي كتاب رب العزة باللاتنية، وربما قسمت جغرافيتنا إلى بقع أرضية متجاورة إحداها لأهل الكتابة السومرية (التيفيناغ)، والثانية لجمهورية الوهم الصحراوية، والثالثة على حد تعبير “أحمد الدغرني” للغزاة أهل الاسلام أهل اللغة العربية، وبين هذه وتلك قصبات مشبوهة لأصحاب القبعات الزرق “الأمم المتحدة” أهل الحل والعقد الجدد، الذين بات وجودهم ضروري لمنع احتمال وقوع تطاحن قبلي أو طائفي غير مرغوب فيه!!؟.
إننا حينما ندعو أو نؤمِّن فإننا نعمل من خلال ذلك على تجديد البيعة وإخراجها من حيز النوايا إلى فضاء الفعل والسلوك، وسواء كنا أهل دعاء أو تأمين فإننا لن نتخلف عن الدفاع على ثخوم أرضنا وعن مكتسبات دولتنا ذات الأصول الإسلامية ساعة العقد التأسيسي الأول, إننا ونحن نرى تهديدا من قبيل خروج بعض المنتسبين إلى ديننا الحنيف، وهم أقرب ما يكون انتماء إلى ثقافة “الهاركيري” الياباني أو ما يسمى بحالة الانتحار الجماعي عند أصحاب العيون الضيقة، لن نتوانى عن مقارعة هذا النوع من الفكر الشاذ والسلوك المنحرف بل مجاهدته باليد واللسان والقلب بغية اجتثاثه من صدور الناس، وإننا إذ نواجه نملك كامل الجرأة لكي نسمي هذه الطائفة من البشر بالفئة الباغية الطاغية خوارج آخر الزمن.
فيا ترى ماذا كنتم سميتم الخارجين عن طاعة سلطان المغاربة، يوم كان الرفاق يجتمعون في الزقاق، ويقررون في العلن أن نظام الخلافة ومعه ميثاق البيعة تجاوزه الدهر, بل بات يشكل نشازا في منظومة علاقة الحاكم بالمحكوم؟
إننا لا نحتاج أن نذكركم وأنتم لا تزالون ترددون باسم الإنصاف وتدافعون باسم المصالحة عن ذلك الجيل الأحمر والأصفر، فمن مات فهو عهدا المقرب الشهيد، ومن عاش فهو وفاء المناضل الصنديد.
إننا حينما ننكب وبقلوب منكوبة على التفكير في إيجاد حل لهذا النوع من “المازوشية” الجديدة لا يمكننا أن نعزف على القول الذي مفاده “داويني بالتي كانت هي الداء” بل إننا نستحيي أن نجعل ضمن أجندة المواجهة برنامجا حافلا بالمهرجانات الساخنة، يؤثث سقفها نجمات الكلمات النابية المثيرة أمثال “نانسي عجرم” وأختها في الحرفة “هيفاء وهبي” حرفة هز الأجسام لدغدغة مشاعر المراهقين، واستفزاز أحاسيسهم، واستعار شهوتهم، وتبليد طباعهم، وتقويض أخلاقهم, إننا وحالكم كذلك، سنرجع المرة والمرات إلى أهل العلم الذين نطقوا بالكتاب ونطق بهم، والذين هم ورثة الأنبياء, لنستعين بهم ونحن نواجه الخوارج الجدد، لأننا نعلم أن شق عصا الطاعة أصله فكر شاذ، وسوء فهم عن الله ورسوله، ولأننا نعلم وبيقين أنهم أهل لهذه المواجهة، وحقيق بهم أن ينفوا عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فهم سمع الأمة وبصرها، ومتى غابوا عنها أوغُيبوا استفتى الناس رؤوسا جهلة، فأهلكوا الحرث والنسل.
إننا حينما نقف أمام تلك اللوحة التي تتوسطها كف يد واحدة مكتوب على أسفلها عبارة “ما تقيش بلادي” لَنعلمُ أنكم تقسِّمون المغرب إلى فسطاطين فسطاط يركب سفينة النجاة وفساط مصيره الطوفان, وإننا وللأمانة نقترح أن تكون اللوحة تحمل عبارة “ما تقيش ديني” لنجعلها توحد المغاربة ولا تفرق بين وطنهم ودينهم، فما قيمة وطن لا يعبد فوقه ربنا سبحانه وفق ما شرع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *