ثالثا: نقد موقف ابن رشد من خلق العالم وأزليته:
قبل إنهاء مبحثنا هذا أُشير هنا إلى أن ابن رشد كان ظاهر التناقض في موقفه من خلق العالم وأزليته، بدليل الشواهد الآتية: أولها إنه قرر طريقة القرآن الكريم في خلق العالم في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة، وذكر أن العالم مخلوق مُخترع مفعول لله تعالى، لكنه خالف ذلك في كتابيه تلخيص ما بعد الطبيعة، وتلخيص السماء والعالم، عندما قال: إن العالم أزلي أبدي. فهذا تناقض صارخ وقع فيه ابن رشد!، فهو إما أنه ذكر ما قاله القرآن من باب العرض والتقرير والوصف لمِا جاء في القرآن، ولم يقله اعتقادا وإيمانا بذلك. وإما أنه كان يقصد بالخلق والفعل والاختراع المعنى الأرسطي الذي يعني إخراج ما بالقوة إلى الفعل، ولم يكن يقصد المعنى الشرعي للخلق. وإما أنه كان يعتقد الأمرين معا، وهذا وارد وهو الصحيح، لأنه يتفق مع قوله بأزلية العالم وأبديته، فهذه محاولة لتفسير تناقضه الذي ينطوي على التدليس والتغليط والتضليل للقراء.
والشاهد الثاني مفاده أن ابن رشد قال: إن الفلاسفة قالوا بأن الله أخرج العالم من العدم إلى الوجود، لكنه قال أيضا: إن الفلاسفة لا يقولون بالخلق من عدم، ويُخالفون الأشاعرة في قولهم بذلك، ثم انتصر للفلاسفة واشتد في نقد الأشاعرة، وقوله هذا ظاهر التناقض على طريقته المزدوجة الخطاب، فكان عليه أن يُحدد مقصوده بدقة ووضوح، من دون غموض ولا تدليس، لكنه لم يفعل ذلك وسار على طريقته التأويلية التحريفية الأرسطية في معنى العدم. فالعدم الذي أثبته للفلاسفة المقصود به إخراج ما بالقوة إلى الفعل، الذي يعني إيجاد شيء من شيء. وأما العدم الذي نفاه عنهم فهو إيجاد شيء من لا شيء، لكنه لم يُفرق بين المفهومين، مما جعل كلامه ظاهر التناقض، يتضمن تدليسا و تغليطا و تضليلا للقراء.
والشاهد الثالث – وهو الأخير- مفاده أن ابن رشد وافق الفلاسفة –فيما حكاه عنهم- بأنهم قالوا: إن الله مريد مُختار، وأفعاله صادرة عنه من غير ضرورة، ذكر ذلك عنهم ودافع عنه، وانتصر لرأيهم. لكنه من جهة أخرى قال: إن العالم أزلي بالضرورة، وأن الله لا يصدر عنه إلا واحد فقط باللزوم. فهذا تناقض واضح، كيف يكون الله مريدا مختارا يفعل من غير ضرورة، ثم يكون العالم صدر عنه ضرورة، ولا يصدر عنه إلا واحد باللزوم؟!. إنه ذكر قوله الأول في كتابه التهافت الذي وجهه لجمهور المسلمين، وذكر قوله الثاني في كتابه تلخيص ما بعد الطبيعة الذي وجهه إلى الفلاسفة. ففي الأول ذَرّ الرماد في عيون المسلمين وغلّطهم ليرد بذلك الشناعات التي شنّع بها أبو حامد الغزالي على الفلاسفة في نفيهم لصفتي الإرادة والاختيار. وفي الثاني كشف عن حقيقة موقفه في نفيه للصفات الاختيارية القائمة بذات الله تعالى. وهذه الطريقة عودنا عليها ابن رشد، فهو مزدوج الخطاب، أرسطي المنطلق والغاية، ينتصر لأرسطيته بكل الوسائل المتاحة أمامه، حتى وإن خالفت الشرع والعقل والعلم، وأخلاقيات البحث العلمي النزيه.
وختاما لهذا الفصل – وهو الثاني- يتبين منه أن ابن رشد لم يُوفق تمام التوفيق في عرضه لطريقة الشرع في إثبات وجود الله تعالى. فقد تخللتها نقائص كثيرة بسبب مذهبيته الأرسطية، التي أوقعته في تناقضات وأخطاء فاحشة في موقفه من صفات الله، وقوله بأزلية العالم.
وتبيّن أيضا أنه كان مزدوج الخطاب في المسائل الفكرية المتعلقة بالشرع والفلسفة معا. فكان ظاهر التناقض في موقفه منها، مُستخدما للتأويل التحريفي في مسألتي الصفات وأزلية العالم، انتصارا لمذهبيته الأرسطية؛ فكان همه الأول الانتصار لها، وأرسطة ما يُخالفها، فإن لم يستطع رفضه وأغفله وأهمله.
واتضح أيضا أن النفي والتعطيل غلبا عليه في موقفه من الصفات الإلهية، حتى أنه وصف الله تعالى بالعجز وعدم العلم، عندما زعم أن الله لا يعقل إلا ذاته، وأن العالم صدر عنه ضرورة، وأنه لا يصدر عنه إلا واحد فقط بالضرورة، وأما إثباته لبعض الصفات في كتبه العامة الموجهة لجمهور المسلمين، فكثيرا ما كان فيها مدلسا مغالطا، تظاهر بإثباتها وأوّلها تأويلا باطنيا تحريفيا.
وتبين أيضا أنه قال فعلا بأزلية العالم في بعض مؤلفاته الفلسفية، وأخفى ذلك في كتبه العامة، وأوّل بعض النصوص تأويلا تحريفيا على مقاسه ليُطوّعها ويُؤرسطها ويُؤيد بها زعمه بأزلية العالم وأبديته، لكنه فشل في ذلك فشلا ذريعا، فخالف بذلك النقل الصحيح، والعقل الصريح، والعلم الصحيح، وبقيت محاولته التأويلية نموذجا سيئا للتأويل الباطني الرشدي التحريفي.