مَنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة الفصل الأول: مناخ نشأتها في أوروبا* يتبع

تفصيل العامل الثاني بإيجاز

وهو تأثير الفتح الإسلامي، والفكر الإسلامي الذي انتشر معه، وامتد بعده.
لما ظهر الإسلام، واتفقت عقيدته وعقيدة الموحدين من النصارى الذين ليس لهم سلطان رسمي في كنائس الإمبراطورية الرومية، دخل معظم هؤلاء الموحدين ومعهم كثيرون من سائر الطوائف النصرانية في الإسلام، فكانوا من المؤمنين بخاتمة رسالات الله للناس، وبخاتمة رسل الله.
واستقرت العقيدة النصرانية الرسمية على الكاثوليكية، ثمّ ظهرت في تاريخ النصرانية بعض الحركات الإصلاحية، التي لم تستطع تغيير جوهر التحريف الذي أمسى هو العقيدة المسيحية.
1- ففي القرن الثامن الميلادي في “سبتمانيا” -وهي مقاطعة فرنسية قديمة في الجنوب الغربي لفرنسا على البحر الأبيض المتوسط- ظهرت حركة تدعو إلى إنكار الاعتراف أمام القسس، وأنه ليس للقسس حق في ذلك، وما على الإنسان إلا أن يضرع الله وحده في غفران ما ارتكب من إثم.
وظاهر أن هذه الحركة متأثرة بامتداد التعاليم الإسلامية، التي ليس فيها خرافة الاعتراف والغفران أمام أحد من الناس، لكن العصاة يتوبون إلى الله ويستغفرونه دون أن يكون بينهم وبينه وسطاء، وهو وحده الذي إن شاء غفر لهم.
2- وفي القرنين الثامن والتاسع للميلاد ظهر مذهب نصراني يفرض تقديس الصور والتماثيل، حتى أصدر الإمبراطور الروماني “ليو” الثالث في سنة (726م) أمراً يحرم فيه تقديس الصور والتماثيل. وأصدر أمراً آخر في سنة (730م) يقرر فيه أن تقديس الصور والتماثيل وثنية.
وكذلك كان “قسطنطين” الخامس، و”ليو” الرابع
ويرى بعض المؤرخين أن ظهور هذا المذهب قد كان بتأثير امتداد الفكر الإسلامي، ويقولون: إن “كلوديوس” أسقف “تورين” والذي عين أسقفاً سنة (828م) قد كان يحرق الصور والصلبان وينهى عن عبادتها في أسقفيته، ومن المؤكد أنه تأثر بالإسلام لأنه ولد وربي في الأندلس الإسلامية.
3- وفي القرن السادس عشر الميلادي ظهرت “البروتستانتية” فرقة من فرق النصارى، إذ خرجت على الكنيسة الكاثوليكية، وأعطت الفرد حرية التقدير، وأبرزت مسؤولية الفرد تجاه الله وحده، وليس تجاه الكنيسة.
وزعيم الإصلاح “البروتستانتي” هو القسيس “مارتن لوثر” الذي عاش ما بين (1483 – 1546م).
نال شهادة أستاذ في العلوم من جامعة “ايرفورت” سنة (1505م) وبدأ يدرس القانون. ثمّ تحول عنه ودخل ديراً للرهبان الأغسطينيين. ورسم قسيساً سنة (1507م). ثمّ عين راعياً لكنيسة “فيتنبرج” بألمانيا. زار روما سنة (1510م) فساءه الانحلال الروحي المتفشي في الأوساط الكنسية العليا. فأخذ يفكر يخطط لإصلاح عقيدة الكنيسة وطرق العبادة فيها.
وفي سنة (1517م) تحدى “تيتزل” الذي كان يبيع صكوك الغفران. واحتجاجاً على مفاسد رجال الكنيسة علق على أبواب كنيسة القلعة خمساً وتسعين قضيةً أثارت غضب السلطات الكنسية. فطلبوا منه سحب احتجاجاته فرفض، وأعلن مقاومته الصريحة لبعض العقائد المرعية. فأصدر البابا قراراً بحرمانه من غفران الكنيسة، فلما تلقاه “لوثر” أحرقه علانية.
فالمذهب “البروتستانتي” ثمرة حركة “مارتن لوثر” إلا أن هذا المذهب لم يصل إلى إصلاح أصل العقيدة التي دخل إليها التحريف، فلم يمس عقيدة التثليث، ولا عقيدة الصلب والفداء، ولا غير ذلك من تحريفات جوهرية في الدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب “كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة” للشيخ الدكتور عبد الرّحمن حسن حَبَنّكة الميداني (ج1/ص: 19-20).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *