الحبُّ عند الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لطيفة أسير

وأنت تطالع كتابات المبدعين اليوم شعرا أو نثرا، وتتابع ما يسمونه «أعمالا فنية إبداعية» من أفلام ومسلسلات تجد الكل منغمسا في الحديث عن الحب، فقد أضحى في عصرنا كما الأفيون، مخدرا فتاكا للعقول، ومُهَيِّجاً فعالا لإشعال الفتن في القلوب، ومُفتِّرا قويا لهمم الصغار والكبار، ويا ليت قومي فقهوا معنى هذه الكلمة لَما كان هذا حالنا، بل نحن لا نرى إلا قصورا في فهمها، وتمييعا لقيمتها، وتضليلا للعباد بها.
فما إن تذكر كلمة «حب» حتى يتراقص بين عينيك علاقة الرجل بالمرأة. وهذا اعوجاج شديد في الفهم أنتج شخوصا واهية لا تبحث إلا عن اللذة والمتعة الجنسية ولو في الحرام.
ولأن الحبيب المصطفى أسوتنا وقدوتنا وجب البحث في سيرته العطرة لنهتدي على بصيرة ونعرف كيف كان تعامله صلى الله عليه وسلم مع هذه القيمة الإنسانية العظيمة. وإن كانت الحروف تقف خجلة أمام جلال الموقف وجمال شخص الحبيب صلى الله عليه وسلم.
لقد تناولت أقلام علمائنا الأجلاء هذا الموضوع بالدراسة والتمحيص، فكانت كتاباتهم النبراس الذي يضع الحب في نطاقه الشرعي بعيدا عن خيالات القصصيين والشعراء، وإفك الدجالين والخرَّاصين، وقد امتن الله علي فكان موضوع بحث الإجازة يتناول هذا الجانب الإنساني العظيم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث عنونته بـ«جوانب المحبة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم»، وقد عنَّ لي كتابة مقال في الموضوع اعتمادا على ما وصلت إليه في البحث، لأضع بين يدي القراء الكرام زبدة القول وخلاصته في هذا الباب.
إن المحبة نعمة عظيمة امتن الله بها على عباده فهي «قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات»(1).
ورغم التعاريف الكثيرة التي قيلت عن المحبة قديما وحديثا فإن الدارسين لم يستطيعوا أن يحددوا لها تعريفا دقيقا لأنها كما قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: «لا تحد بحد أوضح منها فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وهذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إلى تحديد كالماء والهواء والتراب ونحو ذلك»(2).
أو كما قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: «حَدُّها وجودها ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة»(3).
ولذلك دارت تعريفات العلماء لها على ستة أمور: أسبابها، موجباتها، علاماتها، شواهدها، ثمراتها وأحكامها.
والحب عند الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن شهوة بل كان فطرة جُبل عليها منذ كان طفلا ففتى فكهلا، كان قلبه فياضا بالمشاعر النبيلة لكل من حوله وهذا ما ألان عود كل جبار، وأبدل مشاعر الكره حبا عند الكثير ممن عاصروه وعايشوا جميل خصاله صلى الله عليه وسلم «فكم من أعرابي قدم لا أدب له ولا فهم ولا عقل ولا علم ولا كرم ولا حلم، قابل جنابه الشريف بما غضب له المكان والزمان وخاطبه بما عبس له السيف واحتد له اللسان فكان جوابه الإغضاء، والعفو عمن أساء… فتبدل بغضه بالحب وبعده بالقرب.. واستحال إنسانا بعد أن كان ثعبانا وصار حبيبا بعد أن كان ذيبا»(4).
والحب عند الرسول رفيق درب في كل شؤون الحياة، فوراء كل سلوك يسلكه أو منهج يقرره أو كلمة ينبس بها تستشف قلبا نقيا نابضا بالحب لكل من حوله، وما كان الحب يعطله عن أداء واجباته، بل كان الوقود الذي يحفزه على إتقانها والإقبال عليها جدلانا مبتهجا، فكان يمارسها ممارسة محب مفطور، لا ممارسة مكلف مأمور.
وبذات الحب كان يتحمل أذى المشركين وجفاء وغلظة بعض السفهاء من أمثال أبي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط، ولو كان قلبه يعرف الكره والانتقام لاستجاب لأمر جبريل عليه السلام حين قال له ذات محنة: «إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين»، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم المحب العطوف قال (كما رُوِي عنه): «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا»(5).
وأعظم مظاهر الحب تجلت في حب الرسول صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه، هذا الحب الذي سكن كل ذرة في كيانه، وكان يدفعه حتى قبل البعثة إلى الخلوة بهذا الفاطر المبدع المنزه عن الشريك، حب تجلى في تفانيه صلى الله عليه وسلم في عباداته فكان في كلامه وصمته، في حركته وسكونه، في نومه ويقظته، بل في أنفاسه صلى الله عليه وسلم يعبد الله عز وجل لا يفتر لسانه عن ذكره واستغفاره، حب اتضحت ملامحه في غضبه عند انتهاك حرمات محبوبه، وصبره وتحمله للأذى في سبيل أن تبقى كلمة الله هي العليا، أوَ لم يقلها الحبيب صلى الله عليه وسلم في عز محنته «إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي»، فما تساوي الدنيا إن غضب الله عليك وجردك من رداء محبته لك؟
أما حياته العائلية فقد كانت قصة أخرى من قصص الحب المثمر الذي يُكسب المرء رقيا روحيا وقربة إلى الخالق وليس نفورا منه، كما قال ابن قيم الجوزية: «لا عيب على الرجل في محبته لأهله.. إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبته لله ورسوله وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة»(6).
وقد بلغ من حبه لأمنا خديجة أنه لم يتزوج غيرها إلا بعد وفاتها، وكان كثير الذكر لها بعد ذلك حيث قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: «ما غرت على امرأة لرسول الله كما غرت على خديجة، لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله إياها وثنائه عليها»(7)، فقد ذاق معها طعم الحياة الزوجية مريئا، لهذا بقي صلى الله عليه وسلم وفيا لذكراها حتى بعد زواجه بغيرها، وما كان يفتر عن الثناء عليها والاستغفار لها.
كما أن علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة جسدت مظهرا آخر جميلا للحياة الزوجية المبنية على الحب المتبادل والانسجام والنشاط في السفر والحضر، فذات يوم كانت عائشة مع رسول الله في سفر فسابقها، قالت: «فسبقته على رجلي»، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: «هذه بتلك»(8).
ومن لطيف ما يروى في إعرابه صلى الله عليه وسلم عن حبه لعائشة وتمسكه بها قوله لها: «كنت لك كأبي زرع في الألفة والوفاق لا في الفرقة والخلاء»، فقالت عائشة: «يا رسول الله بل أنت خير لي من أبي زرع»(9).
وسقى نبع الحب المحمدي قلوب فلذات أكباده وأحبابه، فكان شديد الحنو عليهم خاصة زهرة البيت النبوي فاطمة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم «إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها»(10).
وما فتئ صلى الله عليه وسلم يداعب الحفيدين الغاليين الحسن والحسين ويقول مُشهدا الكون بحبهما: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»(11).
كما لم يبخل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بحبه عن باقي أهله كجده عبد المطلب الذي كفله ورعاه منذ صباه، وعمه أبي طالب الذي وجد عليه كثيرا حين توفي حتى سمى ذاك العام «عام الحزن»، ثم عمه حمزة أسد الله الذي كانت فاجعته فيه أكبر حين مثَّل به كفار قريش في غزوة أحد. وابن عمه عقيل بن أبي طالب الذي قال له: «يا أبا يزيد إني أحبك حبين، حبا لقرابتك مني، وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك»(12)، وهكذا شأنه صلى الله عليه وسلم مع سائر أهله.
وحين نذكر صحبه الكرام يقفز للذهن حبه لرفيقي دربه الصديق والفاروق ولصهريه المبجلين علي وعثمان، ولن ننسى الصحابيين الجليلين اللذين غدا الحب النبوي لهما صفة تتناقلها الأجيال ويغبطهما عليها كل لبيب وهما زيد بن حارثة وابنه أسامة، فكان الأول: «حِب الرسول صلى الله عليه وسلم»، وكان الثاني: «الحِب بن الحِب».
روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وٳن كان لمن أحب الناس إلي، وٳن هذا لمن أحب الناس إلي بعده»)(13).
وامتد الحب النبوي ليشمل الجمادات، فكان صلى الله عليه وسلم يحب مكة مسقط رأسه ومحضن نشأته وأول من لبى من أهلها دعوته، وأحبّ الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك جبل أحد، فقال فيه: «أحد جبل يحبنا ونحبه»(14)، وقد علق ابن الأثير على هذا بقوله:
«هذا محمول على المجاز، أراد أنه جبل يحبنا أهله ونحب أهله وهم الأنصار، ويجوز أن يكون من باب المجاز الصريح أي أننا نحب الجبل بعينه لأنه في أرض من نحب»(15).
وقال علي بن برهان الدين الحلبي: «لا مانع أن تكون المحبة من الجبل على حقيقتها، وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال المسبحة مع داود عليه السلام، وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال فيها سبحانه: (وإن منها لما يهبط من خشية الله)(16).
وهكذا كان الحب في حياته فطرة وطبعا متأصلا ولم يكن شهوة عابرة كما يدعي الحاقدون. كان سلوكاً نابضاً بالوفاء باعثا على الحياة باسطاً أجنحة العطاء دون قيود، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يستنكف عن التعبير عن مشاعره كما يفعل الكثير من المتدينين اليوم، فكان يحدث زوجاته بمشاعره ويتباسط معهن، ويلاعب أحفاده ويمازحهم، ولا يخجل في التعبير عن حبه لمن وجبت محبتهم. فالبيت النبوي أساسه الحب الصادق الذي غلف كل عبادات النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملاته مع القريب والغريب، حب جعله أكثر مسؤولية أمام خالقه أولا وأمام الناس ثانيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للقسطلاني (2/117).
2) شرح العقيدة الطحاوية (ص:165).
3) مدارج السالكين بين منازل (إياك نعبد وإياك نستعين).
4) وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ النبهاني (ص:22).
5) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير.
6) إغاثة اللهفان (2/129).
7) أخرجه البخاري في صحيحه، باب غيرة النساء من كتاب النكاح.
8) السيرة الحلبية (2/602).
9) بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد للقاضي عياض (ص:11-12).
10) رواه مسلم في صحيحه (4/1903)، كتاب فضائل الصحابة باب: فضائل فاطمة رضي الله عنها.
11) صحيح البخاري (4/587).
12) السيرة الحلبية (1/432).
13) رواه البخاري في صحيحه (4/583)، كتاب فضائل الصحابة.
14) رواه البخاري في صحيحه (5/205-206)، كتاب المغازي باب أحد يحبنا ونحبه.
15) لسان العرب (2/743)، وتاج العروس (2/215).
16) السيرة الحلبية (2/487).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *