عندما تصير الثقافة صعودا إلى الأسفل يطلب العريان خاتما محمد بوقنطار

في عرف العرب خاصة، والأمم عموما يضرب المثل للتعبير عن الحال بشكل هو أبلغ وأفضل من المقال، إذ رمزيته ودلالة الإشارة فيه، وابتسار مبناه وملحون ألفاظه تظل أقوى وأنجع من الإطناب في العبارة والاسترسال في الرواية.
ولا شك أننا كجيل تربينا في وسط زاحمت فيه الأمثال -في مقام التوجيه والتنبيه والحث والتحضيض- الأساليب الشرعية المرعية في دائرة التربية ترغيبا وترهيبا، وربما لم يكن أو لم يسجل بالأحرى على أحد منا أنه التفت إلى هذا التداخل الوظيفي إن سلمت العبارة بعين الاعتبار التي يسلك صاحبها مسلك الحط أو التنقيص من الأمثال كآلية كان لها دورها في التعبير والتدبير، خرجت أو جرت مجرى الحكمة من أفمام الآباء والأجداد، وكل من سبقنا إلى هذه الدنيا بأعوام وعقود وراكم بفعل هذا السبق تجارب ومواقف استوعبت تفاصيلها حالات السراء والضراء والقوة والضعف والهزيمة والانتصار…
كما لم يكن المقصود من هذه التوطئة محاولتنا التأصيل للدور الذي لعبه تراث الأمثال في حياتنا، أو التفصيل في مصادرها ونشأتها وتطورها، أو التماهي مع الطرح الذي ينكب على تفكيكها كظاهرة رافقت الإنسان منذ القدم، وإنما المقصود أصالة هو التنبيه في تعريج سريع على أن اجترار ما علق من مخزونها في الذاكرة، قد يعود بإيقاد من واقع ما، أو مأساة ما، أو ظاهرة مجتمعية سلبية ما، وهو عود محمود في مقام المدافعة والاستعلاء في تهكم، مارسه جيل الفطرة ونعني به جيل الأجداد ومن سبقهم، ولعلني كما غيري لا زلت أذكر أنه كنت كلما سجلت في لائحة مطالب الصبا فضلا على غير فرض وربحا على غير رأسمال، كان السيد الوالد كما الوالدة يتدافعان في تسابق محمود لرميي بما استمرأت والحالة هكذا سماعه وحفظه لفظا ومعنى كما أحفظ الآية من القرآن الكريم ذلك المثل الذي مفاده :” آش خصك آلعريان؟؟؟ خصني خاتم آمولاي”.
ولعل من تذوق المعنى وما حمله المثل من استعارة متهكمة بمن فقد التوازن في دائرة ترتيب الحاجات وتنظيم الأولويات فقِه وفقُه وفقَه أن سوق المثل بما يحمله من رسوخ معنوي يصلح أن يرفع بالاطراد كشعار في وجه هذه الخلوف التي ضيعت الصلوات واتبعت الشهوات وانسربت في تيه وضلال مع النزوات، ويا ليت هذا الاتباع والانسراب وقع من العقل والفطرة موقع الإقناع والاقتناع حتى عند أشد الناس غباء وسذاجة، فلا أبالك الكبراء من أهل الفكر والمعرفة والتوازن الخلقي، والمستغرب أن يقع هذا الإقعاد والتردي والانتكاس في بيئة ومحيط وضع فيه الله لعباده معالم للاهتداء ومنارات لسواء السبيل، بل وأمّن ويسر جل جلاله سبل السير في ترق لا يخطئ تحقيق الحياة الطيبة المرهونة بالعمل الصالح في دائرة الإيمان والإسلام العظيم.
ولكن وما أصعب الاستدراك بعد التنبيه في تسليم ويقين… قلت ولكن دنيانا ما خلت من القوافل الجائرة والطامعين في ترف من الذين اضطرمت في وجدانهم آمال عريضة تبغي الميل بنا كل الميل، وانقلبت في أفهامهم ودواخلهم نيات ومقاصد تقوم على محاور وخطط لا تمت للحق بصلة.
ولنرجع لأمنية الخاتم النفيس في ظل العري البئيس، لنرى من فتحة حلقته كيف أن الوطن يرفل في عري الفقر، ويتضور في تخلف ومسكنة، ويدور بين التكلف والتصلف، يمشي في ذيل الركب يستجدي المكتوب والمركوب، ويئن تحت وطأة الجهل والأمية والتخلف والبطالة… تلد في أصقاعه البعيدة الحبلى المتم على ظهر البغل أو الحمار، ويموت فيه المريض وهو مسافر سفره الطويل نحو مركزية العلاج وأحاديته، ويحاصر فيه الثلج والماء والبَرَد القرى والدواوير، ويباع في سوق قيمه العرض في تقارض مغبون مع ضغث حطب يحفظ من قساوة المناخ وضراوة البرد القاتل هنالك، وتعيش بين أحضانه العقول والألباب المتفوقة في ضيق وقَدَرة، يعيش ويموت العلماء بين أحضانه في إقصاء وغربة وإغراب، ويعربد على طوله وعرضه أولئك الذين يؤثرون الجور على العدل، والعمالة على الإنصاف، والخيانة على الأمانة، والكذب على الصدق، ويتصدر صفوفه الأمامية الوازنة في تطفيف الأفاكون المترفون من صنف من لو تمكن واستمكن ملأ الدنيا بالمظالم وزحم مناكبها بالضحايا والمنكوبين…
وللإشارة فموطني هو عين الوطن الذي يستورد المغنيين والراقصين والراقصات والعابثين والعابثات، وتتفوق فيه هزة ردف وصيحة مخبول حاسر الإست على ما راكمته أيدي العلماء والأدباء والشرفاء، ويغدق في تطفيف على هذا الكل النكد إغداق السماء على الأرض بعد موتها، وتتناسل تناسل الفطر في أروقته مئات المهرجانات وملتقيات اللعب واللهو والعهر والخنا، وتنتشر في محيطه انتشار النار في الهشيم مظاهر الاستغراب… إن الوطن باختصار يحاكي ويصدق عليه حال ذلك الإنسان العريان، الذي في معرض شديد حاجته إلى ما يستر العورة ويواري السوأة يستمطر في غرابة وفصام خاتما لا يغني من عري ولا يستر في كفاف.
وليس يدري المرء أي صلف هذا وأي جلف، وتلبس صفاقة تلك التي اختزلت في ابتسار مخل وخارم مفهوم الثقافة وتجلياتها في هذا الذي نراه ونسمعه ونشم ريحه النتنة، ويقيّد به اسم الوطن، وتستشهر له في استهتار بالقيم والأعراف شبكاتنا الإعلامية والإذاعية عبر الفضاء والأثير الدولي، حيث يتم بهذا الاستشهار الإساءة إلى ماضينا القريب، يوم كانت الثقافة تعني الشعر والقصيدة الهادفة والقصة والرواية الرائقة في تأدب جم، ويوم كان السباق على أشده في ميادين العلم والمعرفة والابتكار، وكل ما يسكن الضمير من جنس ما يخدم الصالح العام، أما اليوم فما يؤثث مفهوم الثقافة في وجدان الأمة فلا يخرج عن مسابقات الرقص والغناء والفكاهة والطبخ، وكأننا أمة بلغت الكمال والاكتفاء وأحالها التاريخ على راحة المعاش، وناسب حالها مقال سيد الخلق عليه الصلاة والسلام :”اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم”.
ويبقى أن نقول مشيرين في تسليم ويقين إلى أن الانقطاع المهول عن الآخرة، والركون في فزع وتعصب وحمية إلى الدنيا والإخلاد إلى متاع الأرض، وكذا الضلال في معرفة الله والتسفل في ذلك إلى درجة الصفر وما دونه، كلها أمور كبائر مصير وجودها بله دعمها أن يخلف وراءه ومن بين يديه هذا الانحطاط والصدود الشامل عن الحق، ومعاداة أهله وأحكامه، وإيثار المتشبعين بثقافته الهلاك على النجاة والعذاب على المغفرة ولو آتيتهم بكل آية، وهم في هذا ليسوا بدعا عن سلفهم وإنما هم على شاكلة من وصفهم الله جل جلاله بقوله تعالى : “وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *