جهات ما وهي تستشرف تدفق السيل عبر خريره تسارع إلى جر صوبه عبر مجاريها إلى مصب يهمها أن يتجمع حمل السيل في بؤرة مصالحها، ذلك الذي وقع والساحة الإسلامية تنضح دروبها بصحوة دينية مباركة، تعيشها شعوب اصطلت بتجربة حكم علماني كرّس الإقطاعية وركّز ثروة الأمة في يد نخبة سياسية مارست السرقة الموصوفة باسم الليبرالية والرأسمالية تارة وباسم الشيوعية والاشتراكية تارة أخرى.
في ظل هذه الظروف ستطفو من العمق فكرة مطالبة العديد من القوى الإسلامية خلق أجنحة حزبية قادرة بفعل قراءتها لحاجة الشعوب المقهورة وتشوقها إلى الطهرانية، على كسب الرهان السياسي حتى بعيدا عن آلية الشورى وخصوصية أهل الحل والعقد، وهو الأمر الذي ستصوب مجراه الجهات الرسمية في جغرافيا البلاد الإسلامية.
ولعل من أبرز ملامح هذا التصويب الالتقاء في غير صدفة في تسمي العديد من الأحزاب الإسلامية بالعدالة والتنمية أو ما يرادف ذلك، في إشارة تلمح ولا تصرح أنها وفي إطار القبول بها كوافد جديد له ما يقدمه قد تنازلت عن ضغث مطالبها التاريخية، بل حبست أنفاس شعاراتها الكلاسيكية في الوجدان فلا تكاد تبين للعيان، شعارات تطبيق الشريعة والحاكمية، وإسلامية الدولة، والانتصار للقيم الإسلامية على حساب ما راكمته التجربة العلمانية من استنساخ لمظاهر الاستغراب الهالكة، والتي من أبرزها تبني التحولات التي عاشها الغرب والتي أسس من خلالها لمرحلة ما يعرف بنهاية الأيديولوجيا، أو انزوائها وإسقاط هذه النهاية باسم تاريخية النصوص على الإسلام عقيدة وشريعة، في مقابل الانتصار حد التيمم والتعبد بكل وافد صقيعي لا إلاّ له ولا ذمة.
وحتى لا نذهب بعيدا فنتّهم بالرجم بالغيب سيما وأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، نبقى بالقرب من تجربتنا التي عشنا فصولها من التأسيس إلى المأسسة، ومن ضنك المعارضة إلى ظهور الأغلبية ولوازمها، حيث ستسجل سنة 1997م منعطفا سياسيا مهما من خلال تأسيس مجموعة من الفاعلين الإسلاميين -مرّ الكثير منهم من بوابة تنظيم الشبيبة الإسلامية، تجربة لا يمكن أن نعرج على تفاصيل مراحلها إذ هي اليوم في حكم الأثر بعد العين- لحزب العدالة والتنمية.
والحقيقة أن التصويب السالف ذكره بدت ملامحه جلية منذ الاستهلال الأول، إذ ستنص الكوادر المؤسسة في برنامجها التأسيسي على محاور تقعد لحالة الانفكاك مع صراخ الماضي وشعاراته، وهي محاور يمكن إجمالها في تعزيز الديموقراطية المحلية، وتخليق الشأن المحلي، والتواصل مع الشركاء المتدخلين، وتحسين الخدمات المقدمة إلى المواطن، وتدعيم قيم ومرتكزات المواطنة، وكذا تفعيل التنمية الجهوية..
وليس هذا بمستغرب فقد عرّف الحزب نفسه بأنه: “حزب سياسي وطني يسعى انطلاقا من المرجعية الإسلامية؛ وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين؛ إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديموقراطي مزدهر ومتكافل، معتز بأصالته التاريخية ومسهم إيجابيا في مسيرة الحضارة الإنسانية”، وربما احتجنا من أجل المواءمة بين المحاور والتعريف والاحتفاظ بنفي الاستغراب إلى أن نستدرك بعد وضع خط سميك تحت عبارة “مغرب حديث وديموقراطي” على عبارة “انطلاقا من المرجعية الإسلامية”.
إذ أثبتت التجربة والمسار النضالي الذي تلا التأسيس سواء تعلق الأمر بأيام المعارضة أو أيام المعاوضة أن الشعارات الكلاسيكية القديمة قد اختزلت في اعتبار الشريعة مرجعية عامة لا غير، مع الابتعاد قدر الإمكان عن تهمة ضرورة تطبيق الشريعة.
ولسنا هنا نرمي بالكلام على عواهنه إذ باستثناء أيام الصحة والعافية، يوم أن استطاع الحزب أن يقف في وجه خطة سعيد السعدي أو ما عرف يومها بالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، حيث استطاعت مليونيتا الدار البيضاء أن تعيد الأمور إلى نصابها، على إثر تدخل العاهل محمد السادس الذي أعلن في وجه المروق أنه لا يستطيع أن يحلَّ حراما أو أن يحرم حلالا، ليتم سحب الخطة وتشكيل لجنة وطنية من العلماء والقضاة والمفكرين أنيطت بهم مهمة إعداد مدونة الأسرة.
لم يسجل بعد هذا أي موقف جريء ينتصر لهذه المرجعية، حتى بعد أن أعطى الشعب الذي أرجعه إخوة بنكيران بوازع ديني محض ليعانق قرف صناديق صناعة الاستبداد العلماني امتياز الأغلبية، ولنا أن نتصور كيف وقف الحزب في وجه محيط القصر في قضية العض على حقيبة العدل لصالح الأستاذ الرميد، في مقابل سكوته وإدارة ظهره لمطالب شريحة كبيرة من المتدينين بما فيهم الأئمة والخطباء والفقهاء والقيّمون بخصوص استبدال البودشيشي أحمد التوفيق الذي أوغل عبر بدعة الهيكلة والخصوصية في عزل المغرب عن محيط الأمة، ووضع يد من بأس على أفمام وأقلام ومنابر ورثة الأنبياء من العلماء والمصلحين.
فكيف لنا أن نقرأ هذا ونحن نعلم مرجعية الإخوة أبناء الشبيبة إذ لا ينكر سلفية القوم إلا مكابر عن مكابر، إلا في ضوء تماهي المنظومة القيمية والإجرائية للحزب مع المشروع الذي دشنته أمريكا في المنطقة باسم “الإسلام المعتدل” الذي لايقرأ اعتداله إلا في مدى البعد والقرب من المحيط السياسي، بل إقصاء الدين من حياة الفرد في علاقته بالجماعة.
ولنتسفل قليلا مع مفهوم الإشارة بدلا عن منطوق العبارة، فقد رفعت حكومة السيد بنكيران لواء محاربة الرشوة، وفي هذا الإطار دأبت “تلفزتنا” تحاشيا لا تماشيا على تمرير وصلات للمذكرة الموقعة من طرف السيد رئيس الحكومة تتوعد من خلالها الراشي والمرتشي والرائش.
والملاحظ على هذا النوع من الوعيد هو خلو مادته من أي إشارة يمكن أن تحيل على وازع أصله “قال الله قال رسوله”، ولعلها إشارة تنطوي في جوفها حقيقة أن الدين أصبح معرّة حتى عند الذين رفعوا شعار “الإسلام هو الحل” فلما تم لهم “عربون تمكين” كان الذي كان منهم من قبيل القبول بشروط اللعبة السياسية دون توجيه أو استدراك يعيد للحزب عهد الوضوح والواقعية وملامسة طموحات الجماهير المسلمة التي خرجت لتصالح الصناديق، وتجود عليه بالأغلبية، وهي اليوم بعد الدخول في العام الثاني من الاستوزار لا تزال تعلق أسئلة محمومة لا تستجدي بها خبزا، ولكنها تتطلع من خلالها لتقف على موقف الحكومة الملتحية من مهرجانات الإفلاس المادي والأخلاقي وأوراش سرقة المال العام واللاعدل، ولم لا تحكيم شريعة الله على قطاع الطرق والسراق والقتلة والمفسدين والملحدين والمترفين الذين لم يزيدوا الأمة إلا رهقا.