وهمية الصراع بين العلم والدين في البيئة الإسلامية -الحلقة الخامسة- أبو الفضل حسن فاضلي

رفَع الإسلام الازدواجية التي صرَعَتِ الإنسانَ في أوربا… فلم يعُدْ هناك مجال للفصل بين الدِّين والدولة، فقد نشأتْ هذه الفِكرة لظروف خاصَّة لا يمكن أن تنطبق على الإسلام؛ وذلك لأسبابٍ كثيرة، منها:

أولاً: أنَّ الإسلام في حقيقةِ أمْره دينٌ ودولة، وعقيدةٌ وشريعة، حيث وضَع نظامًا كاملاً، ومحددًا لكل شأن مِن شؤون الحياة.

ثانيًا: أنَّ الإسلام قد قرَّر العدْلَ بين جميع الناس، وقرَّر أنه لا عِصمةَ لبشر إلا الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما يُوحَى إليه من ربِّه، وبعد ذلك فالكلُّ سواء، رجل دِين أو رجل دُنيا، خليفة كان أو مِن عامَّة المسلمين، وبذلك سدَّ الإسلامُ البابَ أمام نظام الكهانة الذي ابتدعه القساوسة، ولم يعترفْ بوجود طبقةٍ ممتازة تُدعَى رجال الدين، لها عصمة أو قَداسة، فما علماء الدِّين عندنا إلا رجال انقَطعوا لدراسة الدِّين بمحض اختيارهم، وليس لهم ميزةٌ على غيرهم مِن الناس -كما ادَّعى رجال الكنيسة- وحتى اللباس الذي يلبسونه، وهو العمامة والجبَّة، يشاركهم فيه التجارُ وعامَّة الناس.
وما خليفة المسلمين إلا واحدٌ منهم، والحكومة الإسلاميَّة ليستْ حكومةً إلهيَّة مقدَّسة معصومة مِن الخطأ، يحكم فيها الإمامُ نيابةً عن الله في الأرْض، وله وحْده حق تفسير وفَهْم القرآن الكريم -كما حدَث في النصرانية- بل هي حكومةٌ بشريَّة تعمل تحتَ سلطان القانون الإلهي[1]، لا تنفرِد بالتشريع، وإنما تستشير علماءَ الإسلام، وذوي الاختصاص والمبرزين في كلِّ المجالات.

ثالثًا: أنَّه “لا يوجَد في الإسلام صراعٌ بين الدين والعِلم، بل إنَّ الإسلام -على عكس النصرانية- قد فتَح الباب على مِصراعيه للعِلم والفِكر والنظر الحرّ، وجعَل طلَبَ العلم فريضةً على كلِّ مسلم ومسلمة، ولم يقيِّد حريةَ العلماء والباحثين، فقد دعا القرآن إلى العِلم بمختلف مناهجِه في أكثرَ من سبعمائة وخمسين آية، كما أشار إلى مناهج البحْث العِلمي عقليةً كانت أو تجريبيَّة، أو ذوقيَّة إشراقيَّة، أو نقليَّة سماويَّة.
وفي رِحاب القرآن الكريم وبتوجيهٍ منه، قامتْ في العالَم الإسلامي نهضةٌ علمية، ووصَل علماء المسلمين مِن خلالها إلى تحديد خُطوات منهج البحْث العلمي الاستقرائي، بل طبَّقوه على أبحاثه، ووَصَلوا مِن خلاله إلى كثيرٍ من الابتكارات العلمية في مختلف المجالات، كالطبيعة والكيمياء والفلك والطب، وحسبنا أن نذكُر جابر بن حيان في مجال الكيمياء، وأبا حنيفة الدِّينوري في علم النبات، والرَّازي وابن سينا وابن النفيس وابن رشد في عِلم الطب، وغيرهم، مما يدلُّ على أنَّه لا مجالَ للصراع بيْن الدِّين والعِلم في الإسلام، بل على العكس، فالإسلام يدعو إلى البحْث العِلمي، ويوجِّه أنظارَ الناس إلى استكشاف حقائقِ الوجود، والكشْف عنِ العلل والأسباب والعلاقات”[2].
فهذه أسبابٌ ثلاثة -وغيرها كثير- تبيِّن بعمقٍ الخطأَ الذي وقعتْ فيه النظرةُ التي تروم الحُكم على الإسلام مِن خلال المناهج الغربيَّة الماديَّة؛ لإثبات أنَّه دين بدون دولة، وعقيدة بدون شريعة، وهذا ما لم يقلْه أحدٌ من العقلاء قط، ولإثبات أنَّ الدين والعِلم خصمان لا يلتقيان، وعنصران لا يتقاربان، وهذا ما لم يقلْه أيضًا أحدٌ مِن العقلاء قط، فإذا كان العِلم في نظرهم طاقةً من طاقات الإنسان، أو حصيلة تعامل قُدرات عقلية وحسيَّة يمتلكها الإنسانُ مع الطبيعة والأشياء، فإنَّ الدِّين هو منهجٌ كامل للحياة البشرية يسعَى إلى تنظيمِ علاقات الإنسان، ليس بالطبيعة فحسبُ، بل بكلِّ ما له علاقة به؛ وبنفْسه، وبأخيه الإنسان، وبأسرته ومجتمعه، وبسلطاته المسؤولة، وبالأُمم والشعوب الأخرى، وبالطبيعة والعالَم والكون، هذه العلاقات التي تنبثِق جميعُها عن إيمانٍ وإدراك عميقَيْن بالله سبحانه، والتزام مسؤول لمنهجه ودِينه[3].
هذا المنهج -الذي هو الدِّين الإسلامي- يظهر على حرَكات الإنسان وسَكناته، وهو يعكِس إيمانَ الإنسان به، فلا يُمكِن أن يكونَ هناك إيمان، ولا يظْهر في حياة الإنسان العمليَّة والأخلاقيَّة، وإذا ظهرتْ حياة الإنسان بغير مظْهَر الإسلام، فاعلم أنَّ القلب فارغٌ مِن الإيمان، وهذا ما أكَّده أبو الأعلى المودودي في “الأسس الأخلاقية للحركات الإسلامية”، الذي يرى أنَّ الإسلام: عبارة عن ظهورِ الإيمان في صورة عمَل، فعلاقة الإيمان بالإسلام كعلاقة البَذْر بالشجرة، فحيثما كان الإيمان، كان لزامًا أن يظهر في حياة الإنسان العملية، وأخلاقه ومعاملاته للناس، وكفاحه وذوقه، وقواه وكفاءاته… وإذا كانتِ الحياة العملية تجري بقضِّها وقضيضها في مجرًى غير إسلامي، فاعلم أنَّ القلب خِلْوٌ من الإيمان، وأنَّه من المستحيل وجودُ إيمان في القلب وعدم ظهوره بمظهر الإسلام في الأعمال، وإنَّ الإيمان الاعتقادي والإسلام العملي متلازمانِ فيما بينهما، وقد قرَن الله بينهما في غير ما موضعٍ من كتابه العزيز، وإنه ما وعَد بما وعَد من حسن الجزاء والثواب، إلا لعباده الذين هم مؤمِنون اعتقادًا ومسلمون عملاً[4].
فمِن خلال كلام أبي الأعلى المودودي -رحمه الله- نعلم أنَّ الإسلامَ والإيمان عبارة عنِ اعتقاد وعمل، وما بينهما مِن تشريع ونظام وأخلاق، بعيدًا عن كلِّ أشكال التثليث والخُرافة المقدَّسة، فالإسلام لم يأتِ “بالعبادة وحْدَها حتى يُبنَى على الكهنوت والوسائط والقداسات، وإنما هو عبادةٌ وحكومة، وتشريع ونظام وأخلاق، تعمل جميعُها على تكوين المواطن الصالِح والمفكِّر الحر، البعيد عن الخُرافات والأوهام”[5].
فإذا تأكَّد هذا الأمر كان علينا أن نبيِّن أمرًا آخَر، وهو أنَّ (العلم) ذُكِر في القرآن الكريم في غير ما موضع مرادفًا للدِّين نفسه، وللنظام الذي تقوم به المخلوقات، وللحقائق الثابِتة في أم الكتاب، وهذا الأمر في غايةِ الأهمية، أو بعبارة أخرى:
“إنَّ كلمة (العلم) وردتْ في القرآن الكريم مرارًا كمصطلح على الدِّين نفسه الذي علمه الله أنبياءه، على النواميس التي يُسيِّر بها الله ملكوته العظيم، على الحقائق الكبرى الموجودة عندَ الله -سبحانه- في أم الكتاب، وكإشارة إلى القِيَم الدينية التي تنزَّلت من السماء، ومن ثَمَّ يغدو (العلم) و(الدين) سواءً في لغة القرآن”[6]، .
وهو ما يَعني أنَّ الإسلامَ بهذه الوسطية والرَّحْمة والعدْل والحق، يرفُض الجهل والإخلال بالمبادئ الأساسية للعقيدة، كما يرفُض المنهجَ القائم على إقْصاء الرُّوح أو المادة، ويرفُض كلَّ أشكال الإلحاد الناتِجة عن الجهْل بمكوِّنات الإنسان، فهو “يؤكِّد على الدعوة إلى العلم، ويلحُّ في طلَبه، بشرْط انسجامه مع الحياة، وألاَّ يخلَّ بالمبادئ الأساسيَّة للعقيدة والقِيَم الأخلاقية، وإذا كان العِلم أساسه التوازن بيْن الرُّوح والمادة، فهو منهجٌ صالِح في الإسلام، وسبيلٌ للسعادة ببُعدَيْها المادي والمعنوي، وينبذ الإسلامُ ذلك العلمَ القائم على التخريب والإلحاد، والذي يرجِّح المادةَ على غيرها، فهو ينبوعُ الحضارة المادية، ومن ثَمَّ يستنكره الإسلام، وينكره التاريخُ الإسلامي، والتاريخ جزءٌ مِن العلم، فهو عِلمي وصفي؛ إذ يصف مواقفَ المفكِّرين المسلمين الداعين إلى العلم”[7].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الأساليب الحديثة، ص:220-221.
[2] نفسه، ص:223.
[3] تهافت العلمانية، ص:26، (بتصرف).
[4] نقلاً عن تهافت العلمانية ص:99.
[5] الإسلام دين ودولة ونظام، ص:117.
[6] تهافت العلمانية، ص:37.
[7] الفكر الإسلامي في مواجهة الحضارة الغربية 1/168.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *