طالما توهّم بعض الناس عند مطالعتِه للأضواء الساطعة التي تسلّط من قِبَل الفضائيات على السحر والسحرة أنهم قد بلغوا الغاية من النجاح، وأنهم قد تمكّنوا من تحقيق مجدهم الشخصي ووصلوا إلى شاطيء الراحة وجزيرة السعادة، وقد بلغ هذا التفكير ذروتَه في السنوات الأخيرة حيث حيث كثرت أيقونات السحر التي تلمّعها وتحرص على إبرازها آلة الإعلام الضخمة بمختلف مكوّناتها وأدواتها.
(لا يفلح الساحر) إشارةٌ عظيمة، ولفتةٌ كريمة تؤكّد الخُسران المطلق للساحر، جاءت في ثنايا قصّة موسى عليه السلام في لحظة المواجهة الفاصلة بينَه وبين سحرة فرعون، على مرأى من الناس ومسمعٍ منهم.
ويحق لنا أن نتساءل: ما هو المفهوم من كلمة الفلاح؟ وما المقصود من نفيه؟ هنا نجد أن العلماء يركّزون على الأسلوب البلاغي الذي جاء به التعبير القرآني: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} (طه: 69).
يقولون: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، والمقصود بذلك هو أن لفظ (ساحر) جاء مسبوقاً بالألف واللام، وبالتالي أصبح اسماً يشمل كل ساحر -اسم جنس كما يُعبّر اللغويّون-، ثم إن الفعل هنا جاء في سياق النفي، وذلك يكسبه صفة العموم، بمعنى أن الساحر لا يمكن أن يتّصف بالفلاح، مهما فعل.
وهذا العموم في النفي، يشمل:
-نفي الفلاح في الدنيا: والفلاح في اللغة: البقاء في النعيم والخير، والفوز بما يٌفرح به ويكون فيه صلاح الحال، وبعبارةٍ أخرى، هو الذي ينال المطلوب وينجو من المرهوب، فالساحر لا يحصل له شيءٌ من ذلك.
وبشيء من التفصيل يُقال: الساحر في الأعم الأغلب إنما تنصبّ أعمالُه على تقرير الباطل ونشر الشرّ، والإضرار بالخلق، وهذا كلّه مصادمٌ لمقتضيات الفلاح، والساحر من أبعدِ الناس عن معرفة الله والتعلّق به، ويضاف إلى ذلك، أن الساحر وإن اكتسب مالاً فلا بركة فيه، بل هو محروم من البركة التي هي أهم من المالِ نفسِه، والسحرة هم أكثر الناس فقراً إلى الناس، ولذلك يحصرون على تزيين أفعالهم وألاعيبهم أملاً في كسب القليل من المال، فأيُّ فلاحٍ في ذلك كلّه؟
نفي الفلاح الأخروي: وذلك لأن الساحر محكومٌ عليه بالكفر إذا كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر، وقد قال تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} (البقرة:102). قال الحافظ في “الفتح”: ” فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا وهذا كله واضح “.
وارتباط الفلاح المنفي بالكفر ظاهرٌ في كتاب الله، ونجد ذلك جلياً في قولِه سبحانه: {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} (المؤمنون:117).
ويكون السحرُ من كبائر الذنوب إذا لم يكن فيه شيء من الشرك، بدلالة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر) متفق عليه.
وكلّ من ارتكب كبيرةً فما فوقها، فقد جانب حال المؤمنين الذين وُصفوا بالفلاح المطلق يوم القيامة، قال تعالى: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} (البقرة:5)، وقال سبحانه: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} (الأعراف: 157).
هذا النفي للفلاح لا يقتصر على الساحر فحسب، ولكن يتعدّاه ليشمل من يأتي أولئك السحرة والكهّان، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: “من أتى عرّافاً، أو ساحراً، أو كاهناً فسأله، فصدّق بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم”. رواه أبو يعلى والبزار ورجاله ثقات كما قال الهيثمي، والحديث وإن كان موقوفاً إلا أنه لا يُقال بمجرّد الرأي.
وفي الحديث: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدّق بالسحر). رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
والمقصود بتصديق السحر: التصديق بما يخبره به السحرة من علم الغيب.
ونفي الفلاح عن السحرة، هو إثبات لعلوّ المؤمنين وسعادتهم، كما وصفهم ربّهم بقولِه: {وأنتم الأعلون} (محمد: 35)، وذلك لارتباطهم الوثيق به سبحانه، ويقينهم بأنه الضارّ النافع وحده، فلا يسألون أحدا غيرَه، ولا يستعينون بسواه.