نزلت سورة يوسف في مكة فكانت مما ثبّت الله به فؤاد نبيه صلى الله عليه وسلم ومن معه من الثلة المؤمنة، وكانت لهم ركنا شديدا أووا إليه في محنتهم وعسرهم.
كانوا يقرءون فيها قول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
وقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
وقوله عز وجل: {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
ولم تزل هذه السورة ملاذا لأصحاب الشدائد، وموعظة لأهل الابتلاء بكل أنواعه؛ يتلوها القراء، ويفسرها العلماء، ويقر بها الوعاظ والدعاة، فتحرك القلوب وترشد السلوك، وتؤتي أكلها وهي محاطة بقدسية التنزيل، ومصونة بجلال كلام الخالق الكبير المتعال.
ولم يزل هذا شأن المسلمين الصادقين مع هذه السورة التي اشتملت على ما يزيد على ألف فائدة ودرس في شتى مناحي الحياة، كما جزم بذلك الإمام ابن القيم، وذكر جملة منها المفسرون، وجمع ذلك كله في مجلدين ضخمين بعض أهل العلم المعاصرين.
إلا أن الشيعة طلعوا علينا بتوظيف سيئ لهذا الكنز المعرفي والتربوي العظيم؛ من خلال جرأتهم على تمثيل أحداث قصة يوسف وعرضها عبر مسلسل سينيمائي، يحاكون فيه شخصية النبيين يعقوب ويوسف عليهما السلام.
.. لقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم التمثيل باختلاف أنواعه، واتفقوا على تحريم أمور من ذلك؛ منها تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والأدلة التي استند عليها الإجماع ظاهرة وجلية منها:
* قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}.
ولا شك أن هذا التمثيل فيه أذية للأنبياء في دعوتهم؛ لأن الممثل سيقصر لا محالة عن بيان رسالة النبي وتبليغها، بل قد يوحي بنقيضها.
* وقول الله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.
وتمثيلهم ومحاكاة أقوالهم وأفعالهم، بل حياتهم؛ يتنافى مع تعظيمهم وتوقيرهم وإجلالهم.
* وعن عائشة قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أحب أني حكيت أحدا وأن لي كذا وكذا”. [رواه الترمذي وصححه]
قال المباركفوري: “والمعنى أني ما أحب الجمع بين المحاكاة وحصول كذا وكذا من الدنيا وما فيها بسبب المحاكاة فإنها أمر مذموم، قال النووي: ومن الغيبة المحرمة المحاكاة”. [تحفة الأحوذي (6/295)].
* وأيضا؛ فإن عصمةَ الله لأنبيائه ورسله من أن يتمثل بهم شيطان مانعة من أن يمثل شخصياتهم إنسان.
.. إن الوسيلة لا تبرر الغاية؛ وما نقل عن هذا الفيلم أنه يمثل (زليخة) وهي هائمة في حب يوسف، وهو يستعصي عليها، وتمثل وقد شغلها حبه عن كل شيء، بل يمثلان وهما في حالة مراودة ودعوة إلى الفاحشة …إلـخ.
إن هذه المعطيات إذا جردت من السياق القرآني، وضوابط التوظيف الصحيح قد تعطي نتائج عكسية، وتخرج بالقصة من مقاصدها النبيلة إلى أهداف أو نتائج سيئة.
بل إنني أجزم أن اللادينيين وبعض العلمانيين سيتخذون هذا العبث وسيلة لتحطيم المقدس وإضعاف هيبة الأنبياء في قلوب سذج المؤمنين متذرعين بالفن؛ وقد علم أن هناك مسالك في توظيف الصورة للتزيين أو التنفير أو غيرهما عبر إيحاءات ماكرة.
وهو ما فعله بعض اليهود الذين كانوا أول من سن تمثيل الأنبياء لإيذاءهم بعد مماتهم كما فعلوا بهم في حياتهم.
.. وقصْدُ أولئك أن يصلوا في نهاية المطاف إلى جعل قصص الأنبياء شبيهة بإلياذة اليونان وأساطير الرومان، وبهذا يسقط سلطان الدين.
وختاما أقول: إن تحصين المسلمين من خطر المد الشيعي ينبغي أن يشمل مراقبة الإعلام ومواجهة ما يمرر عبره من خطاب يكرس هذا الفكر بطريقة لا يتفطن لها أكثر الناس؛ وإلا فماذا نفهم من كون القنوات الشيعية تشخص الأنبياء وتحجب صورة الأولياء، وهاهم الشيعة مجمعون على تحريم تمثيل الحسن والحسين والأئمة، وقد استنكروا تمثيل مسلسل: الأسباط، الذي يجري تصويره هذه الأيام بورززات؛ فهذا كله نوع من الترويج لعقيدتهم التي لخصها الخميني بقوله: ” إن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل” .. (الحكومة الإسلامية ص:52).