البيداغوجيا بين دلال المتعلم وواقع الممارسة امحمد بالخوجة متخصص في ديداكتيك العلوم الشرعية

لقد بات الاهتمام والإلمام بالبيداغوجيا من طرف المدرس لا مفر منه، بل أصبح ذلك ضرورة حتمية، وذلك بغية التفاعل والتواصل والانصهار… مع الفئة المستهدفة التي أصبحت فئة تحتاج إلى اكتساب مهارات وقدرات، تؤهلها للاندماج مع الوضعيات الصعبة والمفاجئة بسهولة، وهذا كله من أجل ضمان الجودة التي تطمح وتتطلع إليها كل الأطراف التي يهمها الأمر من أسرة ومسؤولين ومجتمع…
إلا أن الواقع يشهد بأن هناك أراء تنبجس أحيانا من ألسنة المدرسين أنفسهم، ومفاد ذلك أن تلك البيداغوجيا “المستوردة” تكون سببا في الغالب الأعم في تسيب ودلال، كثير من المتعلمين، لذا قد ترتفع وثيرة الشغب عند الفئة التي تجد نفسها مهتما بها أكثر من اللازم من طرف المدرسة، خصوصا إذا كان المتعلم لا يحظى بالاهتمام من طرف أسرته، لأن البيداغوجيا التي يستند عليها الغرب لها أرضية صالحة، لا من حيث جودة المؤسسات، أو من حيث مصداقية المناهج، وكذا على مستوى تكوين الأطر التي تقوم بتأطير النشء، بخلاف واقع بلدنا الذي في أغلب الحالات لا تجد اهتماما لا بالمؤسسات ولا بتكوين الأطر ولا بالتخطيط الجيد المحكم.
فكم من مدرس تجده أمام جمع غفير من المتعلمين، في مؤسسة تغيب فيه أهم التجهيزات بل لا تتوفر حتى على مراحيض… فأنى لهذا المدرس أن يتحكم “ببداغوجيته” في معرفة مستوى كل متعلم على حدة، وهم مكتظون مزدحمون، وكلما جادت السماء بالمطر أو بالحرارة وجدت المتعلمين يرزحون تحت وطأة البلل واللهب، فتلكم هي قواطع من القواطع المذهلة، كما عبر عنها الإمام الماوردي رحمه الله، التي تمنع من ظهور عطاءات المتعلم والمدرس على حد سواء.
إننا في الواقع ونحن نهتم بالبيداغوجيا مع غياب الأرضية الصالحة، أشبه ما نكون بالمرء الذي يرتدي ألبسة فاخرة لكنه يعرض عن الاستحمام كلية.
ورجوعا إلى المتعلم، فهل نستطيع أن نتركه يفعل ما يحلو له؟ لنغلق بذلك باب” افعل لا تفعل” ولنساير فلسفة “جاك روسو” الطبيعية، مع العلم أن الأسرة تجدها تقمع الطفل وتهينه ووو، بل إن هذا التناقض قد يجعل المتعلم إما أن يثور على الأسرة، أو يصير مدللا في المدرسة، يقول ما يشاء ويعبر ويجيب كما يريد، طالما أن بيداغوجيا المحاولة والخطأ مثلا، تفسح له المجال بذلك، فيصير الذي غرضه الكلام فقط وإحداث البلبلة، متذرعا بحقه في المشاركة، وإن كان لا يطمح في بناء الدرس أصلا، في هذه الحالة يحار المدرس هل يتشبث ببداغوجيته، أم يلجأ إلى “بيداغوجية العصا” وآخر الدواء الكي وقد لا يفيد، أو يلجأ إلى العنف النفسي من تجاهل وعدم اهتمام وإسناد تكليفات…وهذا قد يفسد التواصل بين الطرفين.
في الدول الغربية الاهتمام بالمتعلم ينطلق من البيت، مرورا بالمدرسة ووصولا بهذا الاهتمام إلى الجهات المسؤولة، حتى لا يحدث الصراع والانفصام على مستوى نفسية المتعلم، بحيث يكون دلال هذا الأخير بالنسبة له أمر جد عادي فلا تجده يخلق متاعب كبيرة، أما في بلادنا، فهناك حيثيات تفرض نفسها وخصوصا على مستوى الأسرة التي بفقرها وعوزها وضعف ثقافتها…لا تعير اهتماما إلى ابنها المتعلم، وإذا أبدت اهتمامها به، كانت الغاية المثلى من هذا الاهتمام، هو أن يسهم هذا “الرجل القادم” في تحسين وضعيته المادية أو تحسين وضعية أسرته.
وعموم القول فإن المدرس أصبح بين سندان البيداغوجيا، ومطرقة الواقع، وما عليه إلا التحلي “ببداغوجيا الصبر” سيرا مع وصية لقمان لابنه، عندما نصحه بتشجيع المعروف وأهله، ولا غرو أن نقول: إن التدريس هو المعروف نفسه، لأنه يبدد الجهل ويجلب الأنوار، بالاجتهاد والكد والاستغوار.
وعلى ذكر وصية لقمان فإن تراثنا الإسلامي زاخر بما يحتاجه الميدان التربوي، وكوننا مسلمين لا ينبغي لنا ترك مياهنا تجري مع المياه الضحلة أيا كان منبعها، والتي قد تحمل مالا يتوافق مع أصولنا ومبادئنا، مع أننا لا ننفي ما يحمله الفكر الإنساني الغربي مما قد يفيدنا على مستوى التدريس والتربية، إلا أنه ينبغي أخذ الحيطة والحذر.
ويزداد الدلال ظهورا وبروزا على مستوى المدارس الحرة، مع أنها تتوفر على أرضية صالحة لتطبيق تلك البيداغوجيا، تلك المؤسسات صارت لا تفكر إلا بالربح المادي، بغض النظر عما يكتسبه المتعلم من قيم والتي غالبا ما تكون لها علاقة وطيدة بثقافة الغرب وأهله من العلمانيين ومن نحا نحوهم.
ويظهر ذلك جليا من خلال سلوكيات المتعلمين، وقد تجد الآباء يفتخرون بذلك لأن أبناءهم صاروا يتماشون مع العصر، وذلك بقدرتهم على التكلم بالفرنسية مثلا في سن مبكرة.
أما عن التعري والاختلاط وتبادل الكلام الفاحش بين الجنسين، فقد صار أمرا مألوفا لا يأبه له، مادام الربح يسري عبرهم إلى جيب صاحب المؤسسة وما جاوره من مؤطرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *