الحكمة من خَلْق الخَلْـق وسُنة الابتلاء والتكليف عبد العزيز وصفي

خلق الله الخلق لحكم بالغة وغايات سامية، فمخلوقات الله على اختلاف ذواتها وصفاتها من دلائل ربوبية الله تعالى المقتضية لإلهيته.

وعلى مخلوقات الله تظهر آثار صفاته عز وجل من علم وقدرة وحكمة ورحمة وغير ذلك كما قال تعالى: ﴿فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها﴾ وكما قال نبيه صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) رواه مسلم.

كما أنه سبحانه خلق الثقلين الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾.

والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيجب تعلمها وأداؤها على وجهها والإخلاص فيها لله تعالى.

ولبيان العبادة، والدعوة إليها أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، بياناً للمحجة وقطعاً للحجة، فلبيان المحجة -وهي الطريق الواضحة للعبادة- قال تعالى: ﴿ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾ وقال سبحانه: ﴿هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب﴾.

ولقطع الحجة -وهي الاعتذار والاحتجاج على الله تعالى- قال عز وجل: ﴿رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾.

وقد كان أول أمر في كتاب الله تعالى هو الأمر بالعبادة في قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾.

فالواجب على العبد أن يحرص ويهتم لتحقيق هذه الغاية العظمى؛ لينال السعادة التامة في الدنيا والآخرة، وتتحقق له الحياة الطيبة في الدارين فيعمل لآخرته ويصلح دنياه قال تعالى: ﴿من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾.

ولا ينحرف عن عبادة ربه يميناً ولا شمالاً بل يلزم الصراط المستقيم، والهدي القويم، ثم ليعلم العبد أن للرب العليم الحكيم سنناً يجريها بعلم تام، وحكمة بالغة، ومن هذه السنن سنته سبحانه في ابتلاء المكلفين، فما المراد بهذه السنة وما الغاية منها؟! وهذا ما سيتبين بعون الله تعالى في الفقرة التالية:

سنة الله في ابتلاء المكلفين والغاية من ذلك: إن من سنن الله تعالى في خلقه ابتلاءهم وامتحانهم؛ حتى يتبين الصادق في إيمانه، الصابر على بلائه، من ضده وهو الكاذب أو الضعيف في إيمانه، الجازع عند بلائه.

فمن مظاهر ابتلاء الله لعباده: أن جعلهم في هذه الدار، وهي دار عناء ومشقة ونكد، كما قال تعالى: ﴿لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾، فكوارثها ومصائبها وشدائدها كثيرة متنوعـة لا يخـلو منهـا بشر، حتى في توفيره لمتطلبات حياته هو في مشقة تحتاج إلى جهد وعناء.

ومن مظاهر الابتلاء: أن الله سبحانه ركب في النفس البشرية طبائع وشهوات ربما نازعت صاحبها إلى معصية، أو دعته إلى رذيلة، أو أخرته عن فضيلة: ﴿ومن يوق شح نفسه فأولئِك هم المفلحون﴾ وقال تعالى في سورة يوسف عن امرأة العزيز: ﴿وما أُبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي﴾ وقال سبحانه: ﴿وحملها الانسان إنه كان ظلوماً جهولاً﴾.

ومن مظاهر الابتلاء: أن الله تعالى ابتلى عباده بالشيطان الرجيم؛ وأنظره إلى يوم الوقت المعلوم، فصار هذا العدو اللدود يسوِّل للعباد، ويدلي بغرور، ويزين الباطل، ويرغب فيه، ويزهد في الخير، ويصد عنه؛ بوسوسة خفية، ومكر عظيم، وقدرة أعطاه الله إياها، حيث يجرى من ابن آدم مجرى الدم وهو كما قال الله عنه: ﴿إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم﴾ وقد أقسم على السعي في إضلال بني آدم، وأن يقعد لهم الصراط المستقيم.

ومن مظاهر الابتلاء: ابتلاء العباد بالقدر والشرع؛ ففي أقدار الله الجارية ما يؤلم النفس ويشق عليها، ويثقل البدن من إخفاق عمل أو خيبة أمل أو موت حبيب أو مرض بدن، أو فقر أو سجن أو هم أو حزن أو غربة أو غير ذلك نحو ذلك.

وأما الابتلاء بالشرع: فالابتلاء بالأوامر والنواهي، والتكاليف التي قد يكون فيها شيء من المشقة وتحتاج إلى جهد وعزيمة وتحمل.

ومن أعظم الابتلاءات: الابتلاء بالفتن التي تنزل بالعباد في دينهم، وتعصف بهم، فتنشر بينهم الأهواء المضلة، والدعوات الباطلة، والدعايات المبهرجة، والأقوال الملبسة، مما يوقع بعض الناس في شراكها، ويُشربونها ويكونون من دعاتها؛ فيَضِلُّون ويُضِلُّون على علم من بعضهم كما قال تعالى: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم﴾ وبجهل من آخرين كما قال تعالى: ﴿قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة لدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً﴾.

وقد بين الله تعالى لنا هذه الابتلاءات، والحكمة منها، وما يجب علينا تجاهها، وعند نزولها؛ لنخرج من بينها سالمين غانمين. فقال تعالى: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسنُ عملاً﴾، وقال تعالى: ﴿أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين﴾، أي: فليعلمن الله ذلك ظاهراً يظهر للوجود؛ ليترتب عليه الجزاء فيظهر عليهم ما علمه الله فيهم، إذ أن الله برحمته لا يعاقب عبـاده على مـا علـم أنه سيكون منهم قبل أن يعملوه.

وقال تعالى: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾.

وقال سبحانه: ﴿ونبلونكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون﴾، وقال نبيه صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) أخرجه الترمذي وابن ماجه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *