سلسلة مرافعات في الدعوة السلفية المرافعة الأولى: السلفية.. و(التسامح)(4) (التسامح عند السلفيين وعند المسلمين!) ذ.طارق حمودي

ذكر ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم أن ذكر العام بعد الخاص إشارة إلى أن العام علة في الخاص!! فتسامح السلفيين سببه أنهم مسلمون.. فهم كغيرهم من المسلمين والتيارات الإسلامية لا يشذون عنهم في ذلك…
وقيل لبعض العلماء: ما سعادتك: فقال: (في حجة تتبختر اتضاحا وشبهة تتضاءل افتضاحا)، وهذا ما أقصده في هذه المقالات نصرة للدين بالحجة وبيانا لهشاشة الشبهات!! وقد كنا في غنى عن هذا كله لأجل الاشتغال بالإسهام في التنمية الثقافية والبناء الحضاري لبلادنا خصوصا في هذه الظروف الاستثنائية ولكن هذا هو مقتضى التدافع الإنساني الذي يميز الله به بين الطيب والخبيث فيعلي كلمة المحق ويدحض شبهات الباطل بحمده سبحانه وفضله.
إن مصطلح التسامح كما مر يقتضي ويلزم إيجاد المسامحة من الطرفين، والسلفية فوق ذلك بكثير فهي لا تشترط المضايفة ولا المقابلة بل تجعل لنفسها في ذلك شعارا أكثر أخلاقية وأعمق في الحوار الاجتماعي الحضاري وهو (السماحة) بشروطها وفي موضعها بطبيعة الحال!
ومن مظاهرها عندهم: اعتبار الاختلاف والخلاف والعفو عند المقدرة ورحمة الناس والحرص على التآلف مع الآخرين وعدم إنكار ما لا يعلم والرفق واللين والاعتذار لأخطاء العلماء. وهي كما ترى أرفع قدرا وأنبل من تسامح الصوفية والعلمانية.
ولأننا نتحدث عن المظاهر العملية الواقعية لمقومات المسامحة عند السلفيين فلا بأس أن أختار نموذجا يتفق الجميع على أنه علم من أعلام الدعوة السلفية في القرن السابع الهجري وهو: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله.
اخترته لأن مخالفينا يتقصدون غالبا شخصنة السلفية فيه!
اعتبار الخلاف والاختلاف
أما اعتبار الخلاف والاختلاف بشروطه المعروفة فلأنهم يعلمون جيدا أن الخلاف أمر قدري يجب التعايش معه بالقدرة على التعامل مع المخالفين تعاملا إيجابيا بناء؛ ليس فيه مداهنة ولا تقية، ولذلك وضع السلفيون لأنفسهم في ذلك قاعدة: (نتعاون فيما اتفقنا فيه وينصح بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
وهي تصحيح للقاعدة الإخوانية المعروفة، والأصل في هذا قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، ولا يعني هذا المداهنة في الحق بالتمييع والنفاق السياسي والاجتماعي.. فكثير من المخالفين يقصدون بـ (التساهل): (التنازل) عن العقائد والثوابت كما مر، وهذا خلاف الإنصاف (والتسامح).. بل التشدد منهم في العقيدة والتوحيد وأصول الإسلام والثوابت عين الحق ودليل الصدق في حوار الآخر.. وإلا كان خداعا ونفاقا، وقد ذم الله تعالى المداهنة في مثل ذلك فقال سبحانه: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)!
فإن كان قصدهم التساهل في معاملة الآخرين فنعما ذلك.. أما أن يكون تنازلا فلا يقبله من يحترم نفسه.. وعقيدته!
العفو عند المقدرة
وأما العفو عند المقدرة فقد كان موقف ابن تيمية من خصومه أقوى الأمثلة على ذلك؛ جاء في كتاب العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية:
(سمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله يذكر أن السلطان لما جلس بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاه في قتل بعضهم. قال: ففهمت مقصوده وأن عنده حنقا شديدا عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي وسكنت ما عنده عليهم. قال فكان القاضي زيد الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي فيه ولما قدر علينا عفا عنا!).
فإن كان يجوز الانتساب إلى شيخ الإسلام في هذا فنحن تيميون!
وقد تحمل الدعاة السلفيون كثيرا من التهم والسباب في حقهم… ومع ذلك عفوا وصفحوا ولم يأبهوا بذلك لطول الطريق وكثرة المشاغل وقلة الوقت. وكان هذا كله في مقابل عدم تسامح المخالفين لهم في الفكر والعقيدة والمنهج فأين الإنصاف!؟
الرحمة بالناس
وأما رحمة الناس فمن أشهر ما يحفظه طلبة العلم السلفيون من كلمات شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قوله: (أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق). وهذا اعتقادنا، وكما حفظناه في صدورنا نحفظه في معاملاتنا للناس إن شاء الله.
والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم : (الراحمون يرحمهم الرحمان إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، فإن كان بدر شيء؛ من بعض من ينسب إلى السلفية؛ فلإنسانيته وبشريته أو سابق عهد له بذلك في جاهليته، لا عن فكره وأصول طريقته التي اختارها منهج حياة، يعتنى سلوكها بتخلية نفسه من كل سوء وتحليتها بفضائل الأخلاق ومحاسن الشيم!
فلم الشخصنة ومحاسبة السلفية بتصرفات بعض قليل من أتباعها. ومن عوامها والمبتدئين فيها.. ولو أنصفوا لطعنوا في مذاهبهم لما يصدر من كثير من أتباعهم!! ولكن الإنصاف عزيز..!
ولست أتحدث عن الذين لا يعرفون عن السلفية إلا ما قرؤوه على صفحات بعض الصحف والمجلات على كرسي في مقهى أو ممددا على فراشه في بيته بجانبه كوب شاي.. لم يتكلف البحث ولا تعنى التدقيق.. فسأل السلفيين أنفسهم.. من باب العدل والإنصاف فقط!
الحرص على التآلف مع الآخرين
وأما الحرص على التآلف مع الآخرين فهو مقصد شرعي عند السلفيين ومن أشهر كلمات ابن تيمية في هذا قوله(22/436): (يسوغ أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفا من التنفير عما يُصلح).
والأصل في هذا قوله عليه الصلاة والسلام: “الذين يألفون ويؤلفون”.
والسلفيون أحرص الناس على ذلك مع الناس؛ وقد حاولوا ولا يزالون بل هم من الناس أصلا، وهم أبناء بيئاتهم ومدنهم وبلدانهم.. لم يطرؤوا على كوكب الأرض من فضاء خارجي.. ولم يثبت أبدا عن وكالة الفضاء الأمريكية أن أشارت إلى شيء من ذلك..!
وأما أخطاء العلماء فللسلفيين في حسن التعامل معها يد السبق بدون إفراط ولا تفريط.. يفرحون عند إصابة العالم للحق ويعذرونه إذا أخطأ اجتهادا ويدعون له. بل قد ألف ابن تيمية كتابا أصلا في الموضوع وهو (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) واسمه كاف لبيان مضمونه مقصده!
ولا زال طلبة العلم السلفيون يَدْرسونه ويُدَرسونه.. فأين غيرهم من ذلك.. لن تجد غالبهم إلا مفرطين يطعنون ويسبون.. أو مفرطين يصوبون كل رأي وكل اجتهاد…! وثم كلمات رائعة في هذا لابن تيمية وابن القيم والذهبي وغيرهم يتداولها السلفيون والإسلاميون بينهم ويعلمون الناس مقتضياتها.. والأصل في هذا كله عنهم حديث المجتهدَيْن الصحيح.

عدم إنكار ما لا تُعلم حقيقته
وأما عدم إنكار ما لا تُعلم حقيقته فهي من أهم قواعد الدعوة السلفية بحمد الله تعالى فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ومن أصولهم فيها ما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما ليس لهم به علم). فكانوا لهذا زعماء، كيف لا وهم فرسان علم الحديث والجرح والتعديل، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) وهو ما لا تجده عند أكثر خصوم السلفية في كثير من الأحيان حين يعمي الهوى والحقد أبصارهم.

الرفق واللين
وأما الرفق واللين؛ فالأصل في هذا عندهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه).
قال شيخ الإسلام (28/136): (ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود. ولا بد في ذلك من الرفق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {ما كان الرفق في شيء إلا زانه؛ ولا كان العنف في شيء إلا شانه}. وقال: {إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف} ولا بد أيضا أن يكون حليما صبورا على الأذى؛ فإنه لا بد أن يحصل له أذى؛ فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح).
وأما ما قد يصدر من شدة من بعض المنتسبين للسلفية فخلاف مذهبهم ومصادمة لنهج ارتضوه لأنفسهم غفر الله لنا ولهم، ومن منا يزعم أنه لا يغضب أبدا… أو لا تصدر منه فظاظة مطلقا!
فمن الذي ما ساء قط.. أو كانت له الحسنى فقط
ولعل كثيرا من ذلك رواسب جاهلية أو حالات نفسية أو طبيعة بشرية؛ فأين المخالفون من العدل والإنصاف والموضوعية؟!
ولا يخفى أن الرفق في غير موضعه يضر ولا ينفع.. كما أن وضع الشدة في غير موضعها يفسد ولا يصلح.
ولذلك قيل:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى — مضر كوضع السيف في موضع الندى
والأصل في هذا أمر الله لنبيه بالغلظة على الكفار المحاربين الذين يعلنون عداءهم للحق فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)، وقال في الصحابة: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).
أما الكفار من أهل الكتاب المسالمين فإنهم أهل للبر والعدل بالقسط، كما قال تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
وأخيرا..
من حقي أن أسأل هذا السؤال: من الذي لا يتساهل مع الآخر حقا؟
وكما يقال: (ضربني وبكا وسبقني وشكا) فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأقول: التسامح لا ينفي الحوار.. والحوار بديل عن التعصب ورفض الآخر.. فيكون بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة. فمن عاند عومل بمثل ما عامَلنا به، فإن عفونا فنافلة منا وتفضل! قال الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث:
(من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذلهم الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير).
فإن خالفنا شيئا من هذا فجزى الله خيرا من نبهنا إليه ناصحا لا فاضحا..
ورحم الله عبدا أهدى إلينا عيوبنا..
فهذا هو (التسامح!!) في السلفية.. ونحن بشر سلفيون..
وحسبي هذا والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *