مرة أخرى، يتورط باحث مغربي في حوار في “آخر ساعة”، وقد صارت هذه الصحيفة كاشفة أغطية، وكان بطل هذه “التوريطة” الأستاذ منتصر حمادة حفظه الله، في حوار أجرته معه الصحيفة، وهو منها! عن طبيعة علاقة السلفية الوطنية بالسلفية الوهابية والسلفية الحديثة على حد تقسيماته الطريفة، وقد وقع الأستاذ في مغالطات ثقيلة في هذا الحوار، كنت أربأ به عن الوقوع فيها لاعتبارات معروفة لكن…
فإضافة إلى أنه لم يلتزم المؤطرات المنهجية لحوار علمي مستوف للشروط العلمية فإنه لم يحقق المفاهيم التي يقوم عليها الحوار، وعوض ذلك مارس سفسطة مفاهيمية بتلاعبه بحقائقها، كما استعمل نوعا من الانتقائية التنميطية ومارس القراءة التجزيئية للتاريخ الفكري! بل مارس مغالطة “إنسان القش” والتي يعرفها جيدا.. ويعرف كيف مارسها هنا!
وليس يهمني المضمون، ولن أدافع عن شيء، إنما يهمني هنا قراءة منهجية لحواره، فأما ما يخص السفسطة فاستنكاره الاستشهاد بكلام مشرقي في دحض فساد فكر مغربي، فليس هذا أمرا يوجب الاستنكار، ألم يستجلب صوفية المغرب كلام الغزالي الشافعي وغيره لانتقاد فكر مغربي آخر وهو الفكر المالكي القائم على عقيدة مالك السلفية؟ هل يوافق الأستاذ منتصر على أن يستشهد بعض المغاربة بنقد جورج طرابيشي لنقد الفكر العربي للجابري، فيقول لزوما: “هل المغاربة قاصرون فكريا حتى نلجأ لرأي مشرقي ليشرح لنا كلام مفكر مغربي”؟ أم أنه سيقول هنا: هذا فكر وحوار علمي لا تحكمه الجهات… وكذلك نقول، لأن العبرة عند أهل الحديث والأثر في القول لا القائل، بخلاف مقتضى موقفه غير اللائق!
وأصل إلى عنصر السفسطة في هذا، فأخطر ما في موقف أخينا المنتصر زعمه أن هذا النوع من الاستشهاد “استيلاب عقدي ومذهبي”، فهل كان الأستاذ منتصر يعي ما يقوله؟ فلو كلما استشهد مغربي بكلام غير المغربي في نقد كلام مغربي كان ذلك استيلابا عقديا وفقهيا عنده فستلزمه أشياء لا يتحملها مثله، وأقولها صادقا، لا يتحملها، وسيضطر إلى الحكم على أهل رحمه الفكريين بالاستيلاب. فلينتبه الأستاذ منتصر إلى ما يلفظه لسانه! وإلى المصطلحات التي يستعملها ويوظفها.
أين الأستاذ منتصر من حوار المشرق والمغرب بين حسن حنفي المشرقي والجابري المغربي، بل أين هو من قول حسن حنفي مخاطبا الجابري: “لا أقول مشرق ومغرب نظرا لأن هذه القسمة نشأت في حضن الاستعمار، تقطيعا للعالم الإسلامي إلى إسلامي وعربي أولا، ثم تقسيما للعالم العربي إلى مشرق ومغرب ثانيا”. فهل صار الأستاذ منتصر وكيلا لهذه السلعة الاستعمارية في المغرب؟
أين هو مما كان يجول بخاطر الجابري من “تولي الكاتب المشرقي الكلام عن المغرب وبالنيابة عن أهله لأنه بهذا النوع من تبادل المواقع يتعرف بعضنا على بعض بصورة أعمق”. فهل كان خاطره خاطر سوء، أم أن منتصرا لا يؤمن بثقافة التعارف كما يؤمن بثقافة الاعتراف بالآخر، وهما من أصل مفهومي واحد. أم أنه سيجد لذلك تأويلا بعيدا عن ثقافة الاعتراف بخطئه؟
أم أن الوطنية عند الأستاذ منتصر هي غيرها التي عرفها التاريخ المغربي؟ -يبدو لي ولست أجزم- أن الأستاذ حمادة صار متجاوَزا، فالعالم اليوم مختلف عما يدعو إليه ويحتاج إلى جلسات مراجعة مكثفة.
ثم ما الغريب في أن يستشهد بمشرقي متخصص في نقد كلام فاسد صادر عن بعض السياسيين المغاربة يمس بسوء أحد ثوابت الإسلام، هل يشترط في الناقد حينها أن يكون مغربيا إن كان هذا عنده شرطا فقد أتى شيئا إدا، ثم ما الداعي إلى هذه الشعرية يا أستاذ منتصر، عهدي بك تحتفل بالخطاب البرهاني، فلم تستعمل الشعرية بمثل قولك “هل المغاربة قاصرون فقهيا وعقديا وعلميا” في محاولة لتحريك مشاعر عنصرية غير مقبولة، فهذه ممارسة مرفوضة، فليس هذا محلها.
قد كانت الجهتان متأثرة كل واحدة بالأخرى تأثر تلاقح وتطوير، ومثال هذا التلاقح الطبيعي المتبادل بين الشرق والغرب، تحكيه قصة التصوف في المغرب والأندلس، فالباحث المحقق يعرف جيدا أن التصوف المغربي قام على أدبيات صوفية مشرقية مثل أحياء علوم الدين للغزالي وقوت القلوب لمكي ابن أبي طالب والرسالة للقشيري والوصايا وغيرها للحارث المحاسبي.
ومثله في الجانب العقدي، فالعقيدة الأشعرية المغربية ذات أصول مشرقية محضة، والباحثون يعرفون هذا جيدا، فلا يخفى عليهم تأثير الباقلاني وأبي ذر الهروي على مالكية المغرب، والجويني وغيره على أمثال السلالجي وغيره، فهل هذا سبة ومنقصة في حق المغاربة، أم أن الأمر جائز عقلا، حاصل تاريخا وفكرا؟ فمتى كان المغرب مستقلا في فكره عن المشرق تأثرا وتأثيرا؟ ومتى كان التأثر بالمشرق سبة ومنقصة؟
وأما عن غلو الأستاذ منتصر وآخرين المفرط في مفهوم الخصوصية المغربية، فقد تجاوز كثير من أمثاله حدود المفهوم المرسومة له ثقافيا وتاريخيا، ومزجوا ذلك بغلو أيضا في عمليات التقييد المصطلحية، ووصلوا إلى مستوى غير مقبول من دعوى وجود “إسلام مغربي” كما فعل منتصر، وهذا نوع من السفسطة الفكرية والثقافية، فالإسلام واحد، وليس متعددا كما هو مشروع الحبر العلماني عبد المجيد الشرفي، والخطير في غلوهم، أنه صار عندهم أنموذجا قياسيا، وميزانا ثقافيا.
أما ما زعمه أخي المنتصر حفظه الله من التمايز بين مفهومي السلفية والوطنية فخطأ فاحش، فمفهوم الوطنية جزء مركب لمفهوم السلفية خلاف ما توهمه أجوبته وكتاباته، فقد زعم أن السلفية الوطنية كانت سلفية لأنها دعت إلى إقرار الشرع الإسلامي وتثبت دعائمه في البلاد” وأنها كانت وطنية” لأنها تقاوم السيطرة الأجنبية”، موهما التمايز بين المفهومين، والصواب أنه أخطأ، فالسلفية تدعو إلى “إقرار الشرع الإسلامي الذي يقوم على مقاومة السيطرة الأجنبية”، وهذا التمييز إن لم يكن من كيس توهمه فهو مقلد فيه، ألم يعلم الأستاذ منتصر حفظه الله أن مقاومة المستعمر، والتي تعني في لغة الشرع “الجهاد” هي أحد أهم الأبواب التي يقوم عليها الشرع الإسلامي؟ أليس جهاد المستعمر هو ما قامت عليه الحركة الوطنية؟
بلى؛ والتاريخ شاهد، بل “كانت السلفية عند أصحابها ولدى الطائفة المستنيرة من المسلمين بل وحتى في تقدير الخصم الاستعماري جهادا تحرريا، على كل الواجهات، دينيا ومجتمعيا وثقافيا” كما قال محمد عزيز الحبابي، وشهد أحمد السراج بأن الشيخ محمد بن العربي العلوي كان متأثرا بفكر ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع. ولأمر ما اختار حمادة أن يلخص السلفية الوطنية في علال الفاسي دون ابن العربي العلوي وغيره كما سيأتي!
ولأجل ذلك سأنبه على محاولة التنميط تلك، والمفاجأة الكبرى أن علالا الفاسي نفسه صرح بأن السلفية كان باعثها حنبليا! ولست أعرف إن كان الأستاذ الباحث منتصر حمادة يستحضر كل هذا في حواره، فإن كان الجواب: نعم.. فمنتصر حمادة حفظه الله حينها لئيم جدا، وإن كنت شخصيا أستبعد ذلك لما أعرفه عنه، هكذا نحسبه والله حسيبه؟ ولا نزكيه على الله!
وأما الانتقائية القبيحة، المنتجة لنوع من التنميط المقيت، فحينما اقترح الأستاذ حمادة حفظه الله أن يلخص صورة السلفية الوطنية في علال الفاسي! وهذا أمر خطير لا يليق صدوره من باحث جاد، ويبدو أن أخانا الفاضل حمادة ليس كذلك، فالسلفية الوطنية لا يمكن أن تلخص بحال من الأحوال ولا تحت أي مسوغ في شخصية واحدة، ويزعم أنها أنموذج مقترح، زاعما أن غيره -وهم كثر- كانوا نسخا عنه، أو كانوا بيانا لمجمله، فهذا مخالف لقواعد البحث المحكمة التي لا تحابي أحدا، وما يفعل هذا إلا الكسالى والهواة وأخشى أن يكون أخونا منتصر منهم، وإلا لكنا اكتفينا بتلخيص التصوف في ابن عربي والأشعرية في الجويني والاعتزال في الزمخشري، وليس هذا ما يفعله الباحثون المحققون، فالأمر أصعب من هذا وأدق، إلا أن يكون للأستاذ منتصر حمادة غرض مبيت فاسد في ذلك، وهو الظاهر من صنيعه حفظه الله.
وأما الاجتزاء التاريخي… فقد أصر الأستاذ على قطع الصلة -سلفيا- بين المغرب والمشرق إبستيميا على حد تعبيره، فزعم زعما مركبا من كون السلفية الحديثة لا صلة لها بالسلفية الوطنية، وكون السلفية الوطنية لا صلة لها بالسلفية الوهابية، وهذا ركام من الأخطاء، فالسلفية المغربية -بإطلاق- قبل هذا وذاك امتداد لمدرسة الفقه والحديث السلفية -على حد تعبير أستاذنا الدكتور جمال البختي- في المغارب الثلاثة والأندلس، وتأثير هذه المدرسة في السلفية المغربية الحديثة واضح للباحث المحقق، ولا يخفى أيضا أن المدرسة السلفية في المغرب والأندلس بفرعيها المالكي وأهل الحديث كانت ذات أصول مشرقية، عن طريق تلامذة مالك، وبقي بن مخلد وغيره، والسلفية الوطنية -كما هي شهادات الكبار المحققين لا حمادة حفظه الله- كانت متأثرة بالسلفية المشرقية التي يصفها حمادة وغيره بالوهابية، وهذا يوجب إعادة النظر في دعاوى الأستاذ الفاضل حمادة.
سيفاجأ القارئ الكريم إن علم أن السلفية الوطنية سارت “على نفس النهج الذي سارت عليه السلفية في المشرق، وليس هذا من باب التقليد وإنما هو من باب طبيعة الحركة السلفية نفسها” وكان الشيخ أبو شعيب الدكالي الممهد للحركة السلفية المغربية، وكان بمثابة “نقطة الاتصال بينها وبين السلفية في بلاد المشرق” كما يقول عبد الهادي بوطالب، بل شهد محمد الفاسي ومحمد الكتاني بتأثر السلفية الوطنية بسلفية محمد بن عبد الوهاب، إي نعم، خلاف دعوى منتصر حمادة هدانا الله وإياه.
ولست أخفي أن صورة الأستاذ حمادة صارت تهتز في عيني بسبب مثل هذه الخراجات، وأرجو أن يبقى له في قلبي محل احترام وتقدير، وإلا فالحق أحب إلينا منه.