الضرب على القفا لمن أنكر التأديب بالعصا (ج.4) ذة. لطيفة أسير

صفة التأديب بالضرب وهيئتها

بما أن التأديب بالضرب أسلوب شرعي وتربوي أقرّته الشريعة، وأجازه العلماء، وفرضه المنطق والعقل، فإن حظره بشكل مطلق في المؤسسات التعليمية تصرف غير مسؤول، ويخالف مناهج التربية القديمة والحديثة، لكن السماح به أيضا بإطلاق ودون ضوابط تصرف غير مسؤول، لهذا فالواجب الإبقاء عليه ضمن ضوابط وشروط تحمي المتعلّم وفي ذات الآن لا تعفيه من العقاب البدني إن اقتضت الضرورة ذلك.

وقد صادفتُ أثناء بحثي ما راقني وأذهلني من حديث علمائنا قديما عن التأديب بالضرب، بأسلوب تربوي وإنساني بديع، يراعي مصلحة التلميذ أولا، ويقنّن لأسلوب الضرب بطرق بيداغوجية الكثير منّا يجهلها، ولعلي أذكر دهشة إحدى زميلاتي حين أخبرتها عن هيئة الضرب وعدد الضربات المسموح بها شرعا، فراعها ذلك واستغربت أن يكون للضرب قوانين وأحكام تضبطه!!

شروط الضرب

بتتبع عبارات الفقهاء -رحمهم الله- يتبين أنهم يقيدون حق المعلم في ضرب الصبي المتعلم بقيود منها:

1- أن يبدأ المعلم التأديب بالتنبيه على الخطأ ثم العذل والتخويف بالكلام واللوم قبل اللجوء إلى الضرب، “فلا يجوز له أن يرقى إلى مرتبة، وهو يرى ما دونها كافيًا”.

2- ألا يوقع المعلم الضرب على التلميذ إلا إذا رأى منه الإهمال والتفريط بعد أن ينبهه ويتوعده.

3- أن يتناسب مقدار الضرب مع ما يحصل من التلميذ من التفريط والإهمال.

4- أن يكون الصبي يعقل التأديب، فليس للمعلم ضرب من لا يعقل التأديب من الصبيان.

5- إذا استحق التلميذ الضرب، فإن للمعلم أن يضربه ضربًا معتادًا كمًّا، وكيفًا، ومحلًّا، يعلم الأمن منه، بحيث لا يكون على المقاتل، ولا ينشأ عنه ضرر كتشويه لحمٍ أو كسر عظمٍ، وقيَّده بعض الفقهاء -كالقاضي شريح- بأن يكون من واحدة إلى ثلاث ضربات فقط أي بامتناع الزيادة على ثلاث.(نقلا عن مقالة التأديب بالضرب (ضرب التلميذ) د.إبراهيم بن صالح بن إبراهيم التنم).

فالظاهر من هذه الشروط أن الضرب لا يُشرع ابتداء، بل لا بد أن تسبقه خطوات تأديبية، ثم إنه لا يكون اعتباطيًا ولا عشوائيا، بل لسبب مرتبط بالإخلال بأحد قوانين الدراسة، ولا يكون تعسّفيا ولا مجاوزا لمقدار الذنب، دون أن يتخطّى عددا محددا من الضربات، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على الإدراك الجيّد لأساليب التربية الناجعة التي تراعي حالة المتعلّم وتحافظ على جوهره الإنساني.

وفصّل كل من الدكتور أحمد ذياب شويدح والأستاذ عاطف محمد أبو هربيد. في بحث تربوي لهما بعنوان (تأديب الطفل باستخدام العقوبة في الفقه الإسلامي)، في هذه الشروط، أذكرها ببعض التصرف:

1- عدم لجوء المربي إلى الضرب إلا بعد فشل جميع الوسائل التربوية (الوعظ والإرشاد – العبوس – الإعراض – الزجر – التهديد – التوبيخ – الهجر – الحرمان – تعليق العصا – العقوبة الوعظية).

2- أن يكون ابتداء الضرب بعد سن العاشرة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم (مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها في عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).

3- مناسبة العقاب للخطأ.

4- عدم تجاوز ثلاث ضربات إلى عشرة -كما سنبين لاحقا-.

5- تجنب ضرب الأماكن الحساسة كالوجه والرأس.

6- ألا يضرب في حالة غضب.

7- إذا كان الخطأ وقع من الطفل لأول مرة، فالواجب منحه فرصة أخرى لتدارك خطئه وعدم المسارعة بعقابه.

8- أن يقوم المعلم بعقاب التلميذ بنفسه ولا يعهد بالأمر لأحد التلاميذ.

9- أن تكون آلة الضرب معتدلة الحجم، ومعتدلة الرطوبة -كما سنوضح لاحقا.

10- أن يكون الضرب مفرقا لا مجموعا في موضع واحد.

11- ألا يرفع الضارب ذراعه لينقل السوط لأعضده حتى يرى بياض إبطه، فلا يرفعه لئلا يعظم ألمه.

ما يُضرب به

مما ذكره القابسي وغيره أن آلة الضرب يجب أن لا تكون مؤذية ولا حادّة، بحيث تؤدي وظيفة التأديب والتنبيه دون أن تُحدث ضررا أو عطبا بأحد أعضاء الجسم، ولا تكون في مطلق الجسم، بل في مواضع معينة، مع تفادي الضرب في المناطق الحساسة.

ومن الأدوات المسموح بها الدِّرَّة (السّوط) و(الفَلَقة). ويمنع القابسي استعمال اللّوح أو العصا المؤذية ويصف الذرة بقوله: (ينبغي أن تكون… رطبة مأمونة لئلا تؤثر أثرَ سُوء).

ولا يجوز الضرب إلا في الرجلين لأنهما (أحملُ للألم في سلامة) أما رأس الصبي ووجهه فينبغي تجنب ضربهما. وفي هذا يستشهد القابسي بقول الإمام سحنون (لا يجوز له أن يضرب فيهما، وضرر الضرب فيهما بيّنٌ، قد يوهن الدماغ أو يطرف العين أو يؤثر أثرا قبيحا فلْيُتجنّبا).

قال أبو الحسن: وليتجنّب أن يضرب رأس الصبي أو وجهه، فإن سحنون قال فيه: لا يجوز له أن يضرب فيهما، وضرر الضرب فيهما بيّنٌ، قد يوهن الدماغ، أو يطرِف العينَ أو يؤثر أثرا قبيحا، فليتجنّبا. فالضرب في الرجلين آمنُ، وأحملُ للألم في سلامة. (رسالة القابسي؛ ص:133).

وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه كما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه). واللفظ للبخاري، وعند مسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه…)، قال النووي: وفي رواية: (لا يلطمن الوجه). قال العلماء: هذا تصريح بالنهي عن ضرب الوجه لأنه لطيف يجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطيفة وأكثر الإدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها، وقد يشوه الوجه، والشين فيه فاحش لأنه بارز ظاهر.. انتهى كلام النووي.

نوع الضرب وحدوده

حين تدعو الضرورة لاستخدام الضرب كوسيلة تأديبية فينبغي -حسب محمد بن سحنون وأبي الحسن القابسي- أن يكون الضرب “رقيقا قصيرا”. ولذا تراهما يحددان بإلحاح عدد الضربات من واحدة إلى ثلاث. وإذا زاد الضرب على ثلاث فالرأي عندهما أنْ لا بدّ من استئذان ولي أمر الصبيّ قبل تجاوز الحدّ الشرعي. يقول محمد بن سحنون: (ولا بأس أن يضربهم على منافعهم ولا يجوز بالأدب ثلاثا، إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك، إذا آذى الصبي (أحدا)، ويؤدبه على اللعب والبطالة ولا يجاوز بالأدب عشرًا، وأما قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثا).

وفي استشارة ولي الأمر يقول القابسي: (إن اكتسب الصبيّ جُرمًا من أذى ولعبٍ وهروب من الكتّاب وإدمان البطالة، فينبغي للمعلم أن يستشير أباه أو وصيّه إن كان يتيمًا، ويعْلِمه بجُرمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث، فتكون الزيادة على ما يوجبه التقصير في التعليم عن إذن من القائم بأمر هذا الصبيّ).

ولا يزداد على ثلاث ضرباتٍ إلا إذا كان الصبي في نظر القابسي (يناهز الاحتلام.. سيّء الرعيّة، غليظ الخُلق، لا يريعه وقوع عشر ضربات عليه، ويرى للزيادة عليه مكانا وفيه محتمل مأمون).

وبهذا فالقابسي يوجب على المربّي استحضار الحالة النفسية للمتعلّم وقدرة احتماله لعدد معيّن من الضربات، قبل أن يباشر العقاب، وهذا أمر قد تُنْبئك به النظرة الأولية للتلميذ، وقد يستوجب أحيانا معرفة بالملفات الصحية لهم للتعرف على الحالات الشاذة التي لا تستحمل هذا النوع من التأديب.

ويزيد القابسي في تضييقه على المؤدب بالعنف فيعرِّفه بنوع الضرب المباح وهو (ما يؤلم ولا يتعدى الألمَ إلى التأثير المُشنِع أو الوهن المُضر).

وقد نقل الأستاذ أحمد خالد في تقديمه لرسالة القابسي إجماع فقهاء الشريعة على إباحة التأديب بالضرب لكن بشروط تتقاسم مع ما ذكرته آنفا.

كما أشار القابسي للحالات التي يمكن أن يلجأ فيها المعلم للضرب منبها لحدّه فقال:

(وإذا استأهل الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد في رتبةٍ فوق استئهالها. وهذا أدبه إذا فرّط، فتثاقل عن الإقبال على المعلم، فتباطأ في حفظه، أو أكثر الخطأ في حزبه، أو في كتابة لوحه، من نقص حروفه، وسوء تهجيه، وقبح شكله، وغلطه في نقطه، فنُبّه مرة بعد مرة، فأكثر التغافل ولم يغنِ فيه العذل والتقريع بالكلام الذي فيه التواعد من غير شتم ولا سبّ لعرض) (رسالة القابسي؛ ص:132).

ومما دلّت عليه النصوص الشرعية في حدّ الضرب ومشروعيته ما ورد عن أبي بردة الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يُجلد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله“. رواه البخاري (6456) ومسلم (3222). وفي رواية للبخاري (6457): “لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حدٍّ من حدود الله“.

قال ابن القيم -رحمه الله-: فقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود الله” يريد به الجناية التي هي حق لله.

فإن قيل: فأين تكون العشرة فما دونها إذ كان المراد بالحد الجناية ؟.

قيل: في ضرب الرجل امرأته وعبده وولده وأجيره، للتأديب ونحوه، فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط؛ فهذا أحسن ما خُرِّج عليه الحديث” اهـ. “إعلام الموقعين (2/23)”.

…يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *