لم تعرف المسيحية(1) في مختلف عهودها نظاما أشد وطأة ولا أكثر إمعانا في تسخير البشرية وتضليلها من نظام الكنيسة واحتكار رجالها، هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم ورثة بعد عيسى، فاستغلوا تعاليم دينه السامية شر استغلال، وأحاطوا أنفسهم بهالة من التقديس والجلال، فكانوا على هذه الأرض أشباه آلهة يمنحون البركات، ويستمعون إلى الاعترافات، ويحظى بالسعادة من وسعه رضاهم، ورفعه إلى الله دعاؤهم، ومسحت رأسه أصابعهم، لأنهم -كما يزعمون- همزة الوصل بين الله وأبنائه، فلا عجب إذا هم فرضوا على الناس طقوسا دينية خاصة ومراسيم معينة، في أفراحهم وأحزانهم وفي الحقير والجليل من أعمالهم، ولا نكر إذا هم حاربوا العقل وطمسوا نور المعرفة، لأن هذا العقل هو الذي سيفضحهم ويكشف عن دخيلتهم، فتحجير العقل وإذابة الشخصية، هما هدف رجال الكهنوت، ووسيلتهم لتسخير البشرية لأنانيتهم، وسوق قطيعِها وفق إرادتهم.
ولقد سجل التاريخ صراعا حادا بين آباء الكنيسة ورجال السلطة الزمنية، أصيب فيه حماة الإنجيل بأذى غير قليل، كان من نتائجه إقصاؤهم عن الدولة وشؤون السياسة، ولكنهم اليوم يسترجعون ما فقدوه من سلطان، فإذا هم ملوك غير متوجين تعمل أصابعهم في توجيه السياسات، ويأتمر العالم المسيحي بما يوحون به من إرشادات..
وشتان في هذا المضمار بين المسيحية وبين الإسلام الذي لم يعرف نوعا من هذه الأنظمة الكهنوتية، ولا منح أحدا من أتباعه قداسة دينية ترفعه عن الآخرين فتخوله وساطة أو سلطة، أو تمنحه وحده التكلم باسم الدين وحماية كيانه، فقد برئ من هذه الرهبنة المضلة، والكهنوت الذي خاصم العقل وحارب العلم واعترض سبيل الإنسانية وتطلعها إلى حياة أفضل وسعادة أمثل.
وإنما للإسلام فقط علماؤه الذين أسدوا إلى الحضارة الأيادي البيضاء، ففتحوا للناس آفاق المعرفة، وحرروا العقل من أسار الجمود والتحجر، وكانوا أمناء للشريعة أوفياء وهداة بررة أتقياء، ورجالا سعدت بهم الإنسانية واعتز بهم الدين الذي ينتسبون إليه، وليس في الإسلام هيأة رسمية وكل إليها السهر على الدين، والتكلم باسمه وتمثيله في المجتمعات، ولا منح لأحد من أتباعه امتيازا يكون به أكرم على الله خيرا من التقوى وحسن الاستقامة، فالمسلمون كلهم أعضاء في المجتمع الإسلامي متساوون في الغيرة على دينهم، قوامون جميعا على حمايته وحفظ كيانه، مهما تباعدت ديارهم واختلفت أطوارهم وأوضاعهم، ليس أحدهم في هذه الحساسية بأجدر من الآخر..
درج المسلمون على هذه العقيدة التي أشربت بها قلوبهم منذ فجر الإسلام، فنهلوا العلم من منابعه الصافية، وتلقوا القرآن مبينا في مجالس الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فتدارسوه بينهم في الخلوات والأسفار وخالطت بشاشته قلوبهم، وشرحت تعاليمه صدورهم، فانطلقوا يضربون في طول الأرض وعرضها، كل منهم رجل لدينه، ينشر الفضيلة، ويدعو البشرية إلى الحب، ويستحثها إلى الخير..
ويحدث أن تطلع فتنة يخشى منها على الدين، أو ينجم شر فيه مساس بتعاليمه، فإذا بالمسلمين كافة رجال لهذا الدين يرفعون عقيرتهم بالاستنكار -وأحيانا بسيوفهم- حفاظا على دينهم من أتباعه أن يضام، وعلى عقيدة آمنوا بها أن تمس، لا يتوانون عن ذلك أو يتواكلون، ولا يعتمدون على رجال للدين يكفونهم المهمة، ويغنون عنهم في الموقف، لأنهم في هذا الشعور سواء، وفي القيام بالواجب الديني كفاة وأكفاء، من كان منهم في جبهة القتال أو على المنبر كمن كان منهم في ميدان السياسة أو الصناعة، كل منهم رجل لدينه، يعمل لعزته، ويسعى لإعلائه، وإن تعددت ميولهم، وتباينت اتجاهاتهم.
وهذا عمر الفاروق يتوجه بخطابه لجمهور المسلمين طالبا منهم أن يتعاونوا معه، وأن يقوموا اعوجاجه إذا حاد عن جادة الدين، فلا يعدم من يقول له وهو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم: “والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا”..
لم يتول كبر هذه المقاومة رجل من رجال الدين لأن المسلمين يومئذ كلهم رجال دين؛ لا يقبل أحدهم أن يتنازل للغير عن حقه في حمايته وإعزازه، حتى ولو كان هذا الغير الفاروق نفسه، وبهذا الاعتبار الذي يسوي فيه الدين بين أعضاء المجتمع فلا يمنح عضوا منه قداسة دينية. خاطب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عامة بقوله: (من رأى منكم منكرا فليغيره)، فاعتبر الجميع أعوانا على نصرة الدين وتطهيره من كل الأوضار التي قد تعلق به، ولم يتوجه في خطابه إلى هيأة معينة ولا إلى طائفة مختصة، ومن تتبع أسلوب القرآن في مخاطبته للمسلمين أدرك بالبديهة أن الإسلام يعتبر أبناءه وحدة متماسكة وأعضاء متساندة تتعاون كلها على حفظ الدين وتدعيم صرحه بالتواصي بالخير والتناهي عن الشر والاعتصام بالعروة التي لا انفصام لها.
وليس للعلماء داخل هذا الإطار إلا أن يقوموا بأمرين، أن ينشروا العلم بين الناس ويقوموا بتبيينه حسب طاقتهم وإمكانياتهم، وأن لا يضنوا به فيكتموه عنهم وهم في ما وراء هذا مع الجمهور المسلم سواء. فعلى المسلمين حيثما وجدوا في مشارق الأرض ومغاربها أن يصونوا كيان الدين وأن يعملوا لإبعاد الشبهات عنه، ويصدوا عنه كيد الكائدين والمتربصين. ففي هذا كله تلتقي مسؤولية المسلمين كافة، ويتطلب الدين جهودهم متضافرة وأهواءهم متحدة..
وقد ألف الناس أن يحتموا بالعلماء بوصفهم رجال الدين فتقوم الدنيا من حولهم فلا يضجون أو يتحركون ويصاب الدين في الصميم فلا يثأرون لأن العلماء رجال الدين المتصدرون، فهم حماته والمسؤولون عن كل ما يتهدده، يرددون كل هذا وأشباهه تفصيا (أي: تفلتا) من التبعات، وتملصا من القيام بواجبهم كمسلمين، ولن يقوم لهم هذا عذرا بحال لأنهم أيضا رجال للدين وجنوده، فليس أحد بمغن عن آخر في صيانة الدين وحماية حوزته فتيلا.
وإنما اعتقد الناس هذا يوم أن ضعفت الروح الدينية، وتغلبت عليهم المادية، واندس بين صفوفهم أقوام لبسوا مسوح الدين، وتكلموا باسمه، وأدخلوا على العقيدة الإسلامية النقية ما شاب صفوها وعقد سهلها ونفر منها أهلها. وقد عانى المجتمع الإسلامي من هؤلاء المرتزقة بالدين وذاق من أنانيتهم وأثرتهم الشيء الكثير، فتخلى لهم وأسلم لهم القياد وكان حظ المغرب من هذا السرطان البغيض غير قليل، فقد شاهد من هؤلاء أنماطا (وعينات) كان مصيرها السيئ أكبر شاهد على تدليسها وفظيع بهتانها، ولا بدع فإن الدين سلاح ذو حدين يرتد في الأخير إلى صدور الذين يستغلونه من الدجالين والمضللين.
ولكن شعب المغرب -والحمد لله- شعب مسلم بفطرته نقي العقيدة، قوي الحفاظ، سريع الاستجابة إلى كل دعوة إصلاحية، فالحال معه لا يتطلب حملة تبشيرية دينية، ولكنه في حاجة إلى توجيه وحث على التمسك بتعاليم الشريعة، وفي حاجة إلى قيادة حازمة وقوة صارمة تردع المضلين وتقمع إلحاد الملحدين فلعل الله أن يزع بالقوة والسلطان ما لا يزعه بالقرآن.
دعوة الحق العدد الثالث السنة الأولى صفر 1377/شتنبر 1957 الصفحة:13.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأولى تسميتهم نصارى كما هي لغة القرآن؛ لأن في نسبتهم إلى المسيح تزكية لهم؛ وهم غير متبعين لتعاليم المسيح عليه السلام.