لا يعزب عن البال أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وذلك غالبا ما يكون في باب الآداب لُماما ما يكون في باب الأحكام، والأمر يحتاج إلى تفصيل ليس هذا باب ذكره، ولكن يهمنا كثيرا الإشارة إلى أن معشر الأصوليين وهم يؤصلون لهذه القاعدة الهامة في معرض كلامهم عن أدلة الأحكام لم يكونوا ليجعلوا في مقابل شرع ما قبلنا شريعة عقيدتها عقيدة التثليث، عقيدة ملؤها الخرافات والأباطيل التي أخمد الإسلام نارها حينا من الدهر وجعلها حبيسة محتجرة في نحور المتشدقين بها..
فما بال أقوام يسعون اليوم والأمس قبله كل السعي غايتهم تحقيق نظرية الخلط بين الإسلام وبين ما عليه الآخر من دين محرف منسوخ، حاملين شارات وشعارات من قبيل نبذ التعصب الديني باسم الإيخاء والاعتدال تارة، وباسم التضامن الإسلامي “المسيحي” ضد المد الشيوعي الملحد الكافر تارة أخرى.
مشروع تذويب عقيدة المسلمين في حوجلة إفك الأفاكين
في الوقت الذي يجري فيه صريف الأقلام الصادقة الغيورة لصد عاديات التغريب المذموم وموريات التقريب المشؤوم، وفي الوقت الذي تعلو فيه أصوات الشرفاء من أهل العلم والولاية منبهين من هذا النزع العنيف، محذرين من هذه الفراهة الوقحة، نجد أن فسطاطا من بني الجلدة وما إن وطئت حوافر هذه الشعارات الجوفاء جغرافية هلالنا حتى تزينت بها أفواههم، وركبت صهوة علجها أحلامهم، فخدمتها الأقلام، ونبست بنصرتها الأفهام، بل وأقسموا جهد أيمانهم وليا بألسنتهم أن يعملوا على تحقيق هذا المشروع الطوباوي: مشروع تذويب عقيدة المسلمين في حوجلة إفك الأفاكين، مشروع مطاردة بشائر الخير طلائع الجيل المؤمن في محاولة عنيفة لسحبها إلى ردة شاملة، وإحكام الطوق على رقابها سلسلة الشبه يجر بعضها بعضا في لجة من الأحداث المتعاقبة تعاقب الليل والنهار.
وهكذا ولد فينا من لما بلغ أشده نادى بإمكانية طبع القرآن الكريم والتوراة المزورة والإنجيل المحرفة بين دفتي مجلد واحد، وجاء آخر بمشروع بناء مركب تعبدي باب قلعته يحوي جنبا إلى جنب مسجدا وكنيسة ومعبدا..
وجدير بالذكر الإشارة إلى كون هذه الهرطقات لم تكن وليدة فراغ، فقد سبقتها دعوات مجموعة ولقاءات مسمومة، سيما وقد سبق للـ “بابا” أن دعا لإقامة صلاة مشتركة تجمع “بغير كيف ولا تمثيل” ممثلي الأديان الثلاثة، وقد تم ذلك حيث أقيم هذا الاجتراء السافر وكان ذلك في قرية تدعى “اسيس” بإيطاليا بتاريخ 27/10/1986 وتتويجا لمثل هكذا سلوك اعتبر الـ”بابا” هذا اليوم عيدا لكل الأديان، وتوالت الأحداث وتناسلت الشعارات، وتدفق سيل من الألقاب والأوسمة، حيث تأسست الجماعة العالمية “للمؤمنين” باسم “المؤمنون المتحدون” سنة 1987م والتي كان من نتائجها اعتبار مؤسس الصليب الأحمر رمزا للإحسان العالمي، و”القرداروين” رمزا للتطور، بينما توج “كرل ماكس” بوسام المساواة، واعتبر الـ”بابا” رمزا للسلام العالمي والإيخاء الديني، وخرج أهل الإغراب المتأسلمون بخفي حنين صفر اليدين لكنهم حملوا أوزارهم وأوزار من انطوت عليهم الحيلة من العوام وكانوا ضحية فتونة الشبه ودسامة الأباطيل.
إننا وإن كنا نؤمن بأن كل هذا يجري على سنن الصراع والتقابل بين الحق والباطل، ونؤمن بكثير من الاطمئنان على نفاذ حكم الله الحاسم في الكثير مما هو من جنس هذا التدافع، ذلك الحكم الذي يستبشر به أهل الإنصاف، ومن أحسن من الله حكما “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ” إلا أن المرء ومع منزلة الاطمئنان هذه لا يملك إلا أن يكشف عن مداخل السوء المبطنة لهذه الدعوات الفلسفية الإيديولوجية، السياسية الاستهلال، والإلحادية المقاصد، التي جاءت لفيفة عباءة جديدة لأخذ الثأر من المسلمين وإخماد توقعات ردود الفعل، وذلك عبر تعبئتهم في بيئة يشوبها الاسترخاء ويغلب عليها التبلد وتنتشر فيها الموبقات وتستهجن فيها النفوس لتغريب وتجريم أي سلوك قويم وفكر سليم.
فكيف للمسلم الغيور على عقيدة التوحيد الذي هو رباط الأرض بالسماء منذ أن أهبط آدم إلى الأرض وإلى آخر نفس منفوسة من الثقلين، كيف له سائغا كان أو غير سائغ أن يركع لهذه التيارات الجارفة التي أناطت بنفسها مسؤولية المآخاة بين التوحيد والشرك وبين الإيمان والكفر وبين الهدي والضلالة..
فإلى الذين ركعوا وسجدوا لصلبان الآخر ثم قاموا كالذي يتخبطه الشيطان من المس، يهرفون من حيث لا يعرفون، وينادون ببتر واجتزاء كل آية من فرقان الحق تدعو إلى تحصين النفوس، وتأمر بمقاومة الآخر وصد عدوانه طلبا ودفعا، بدعوى أنها تعسر سبل التآلف وتدعو إلى كراهية هذا الآخر وتكالبه وعدوانه على الأخضر واليابس، يلتمسون الأعذار ويتعللون بالأقدار ويا ليتهم كلفوا أنفسهم قليل عناء ففتحوا بطون كتب الأدب والتاريخ والدين عند هذا الآخر، وإن كان العاقل المنصف تكفيه ما نبست به الأفمام الحاقدة تغنيه أصوات القنابل المدوية التي حفرت السفح ودكت الجبل، ولكنها البصيرة قد أعماها الوهن فسلبها نور الفراسة وأطفأ فيها ضوء البصر.
مبادئ أساسية في صناعة نظرة الآخر إلينا
فمعذرة إلى الله وحجة عليهم نفتح مثالا لا حصرا بوابة بعض المفاهيم التي تعد مبادئ أساسية في صناعة نظرة الآخر إلينا إسلاما ومسلمين، ففي الكثير من المصنفات الأكاديمية المتخصصة في تاريخ أمريكا مثلا نجد أنه عندما يذكر الإسلام وتحاشيا أن تنسب إليه خدمة حضارية قد يزاحم بها الفكر الكنسي في وجدان المواطن الأمريكي، يعمد المصنفون إلى ربط الإسلام بالكاتب “مالكومكس” من زاوية كونه “طريقة جديدة” قدمها هذا الكاتب وخص بها مجتمع السود -السافل- أو الأفارقة الأمريكان دون مجتمع البيض ذو النزعة الآرية والعرق النقي والمكانة العليا بعلو نواقيس الكنيسة.
وبالرجوع إلى النصوص الانجليزية الأكاديمية نجدها وكما يذكر أهل التخصص تتحاشى قاصدة متعمدة ذكر ثقافة الآخر الإسلامي، فهي مثلا لا تزال ترسم صورة مثالية أسطورية بل وهالة من القداسة والسريالية لقادة الحروب الصليبية وخصوصا القائد الانجليزي ريتشارد الأول في مقابل النيل من الشخصية الإسلامية والسمعة الميدانية، والمكانة التاريخية للبطل الفاتح صلاح الدين الأيوبي!
كما لا تزال هذه النصوص تعمل من خلال ما تحمله من إيماءات سلبية على نقش المعتقد الفاسد وغرس جيناته في أدمغة جيل التلقي من طلاب المؤسسات التعليمية مثل الإشارة والتنصيص على أن الباعث على خوضهم الحروب الصليبية كان هو رفض المسلمين السماح للمسيحيين “بالحج” إلى القدس وزيارة السيد المسيح.
وعموما وإن تفرقت بهم الجغرافية وبعدت بهم شقة الكينونة فإن أصول المعتقد واحدة سماؤها المترعة مليئة بكواسر الهوية ونسور الأنا التي تحلق بجناحي الدين واللغة هذه “الأنا” التي يخطط أصحابها اليوم لتحقيق هذا النوع من التقريب هي عين “الأنا” التي لا ترى في تشريعنا الإسلامي إلا مجرد نصوص قام محمد عليه الصلاة والسلام باقتباسها من اليهودية والنصرانية وزاد فيها ما ليس منها، ولهذا فدعوتهم اليوم المتدثرة بلباس الأمن والمحبة هي في بطون قلوبهم المريضة لا تخرج عن كونها نضالا يسعى لتحقيق تقريب الغلبة والضم، يسعى لرد ما سلبه عرب الجاهلية بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك فالذين يغردون من خارج السرب هنا هم خارج السياق هناك، يخدمونه عن غفلة أو جهل أو عمد.
فإلى الذين يريدون أن يحققوا الرباط المقدس بين الهلال والصليب ونجمة داوود وأن يبتدعوا بالوكالة غير المفوضة دينا جديدا يحلل من البعوضة إلى الفيل مرورا بالخنزير يعبد في الأب والابن والصاحبة، إليهم نقول أن الإسلام لم يشكو لكم كسورا حتى تجبروه، ولم يشكو لكم جرحا حتى تطببوه، ولكنه بفضل الله نعمة تامة ودين كامل أخبر عمن قبله “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً” وأثبت وبيَّن ما سبقه “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ” وهو دين لم يأت مكذبا لعيسى عليه السلام ولا نابزا لأمه مريم البتول بل جاء ليقول عنهما “مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ” وجاء ليملأ الدنيا ويربط جنباتها بعروة وثقى عروة: “لا إله إلا الله” بعدما اندرس التوحيد وانقلب الواحد ثلاثة، وصارت المعابد والأديرة مرتع دجل وخرافات، وتحول رجال الدين إلى زلفى ووسطاء يغفرون الذنوب ويمحون السيئات ويتنزهون أمام أعين الضالين عن الولد والصاحبة، ولا يتورعون عن إلصاقهما بالواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد.
ذلك هو ديننا ملة أبينا إبراهيم حنيفا وهو دين الأولين والآخرين، ومن يتبع غيره شرعة ويرضى سواه منهاجا، ففعله صدود وتعبده مردود، وهو في الآخرة من الأخسرين.