يُعتبر «وليام بلوم» أحد أهم الكتاب الأميركيين الذين يتبنون خطا مناهضا لسياسات بلاده الإمبريالية، ويعمل على كشف حقيقة الوجه القبيح للسياسة الأميركية، وجرائم الإدارات الأميركية في العالم عبر التاريخ، وله في هذا كتاب شهير اسمه «قتل الأمل»، سرد فيه قصة الانقلابات والمذابح التي دبرتها المخابرات المركزية الأميركية في بقاع مختلفة من العالم، لمجرد ضمان المصالح الأميركية فيها، وبقاء أنظمة حليفة هناك.
وفي كتابه الحالي «الديمقراطية أشد الصادرات الأميركية فتكا»، يستمر بلوم في تعرية السياسة الأميركية، ويوضح كيف أنها تستغل شعارات -مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان- في تدمير المجتمعات الأخرى من الداخل للحيلولة دون ظهور منافسين لها في الهيمنة الدولية.
بلوم ترك منصبه وكيلا للخارجية الأميركية عام 1967 بسبب معارضته لحرب فيتنام، ويرى في كتابه هذا أن أحداث 11 سبتمبر 2001 كانت صدمة قوية للنظام الأميركي، ولكنها دعمت «سياسات المؤامرة» التي تتبناها الولايات المتحدة -على حد تعبيره- من أجل تقسيم العالم وتفتيت قواه.
ويستدل على ذلك بنماذج مثل حالات يوغسلافيا وليبيا وسياسات واشنطن العامة في أميركا اللاتينية، وغير ذلك من النماذج التي سردها في 25 مقالا مثلت متن كتابه المهم هذا.
ويستهل المؤلف كتابه -ملخصا الهدف من تأليفه- بالقول: «ظل أهم الأهداف الجوهرية للسياسة الخارجية الأميركية استدامة هو الحيلولة دون صعود أي مجتمع قد يصبح مثالا صالحا لنموذج رأسمالي بديل، وكان هذا هو جوهر الحرب الباردة».
ومثل كثير من القادة الأقوياء -في الماضي والحاضر والمستقبل- يريد المسؤولون الأميركيون منا أن نصدق أن السياسات التي ينتهجونها في مسعاهم للهيمنة هي من أجل شعبهم ومعظم العالم، حتى إن لم تتضح «بركاتها» في الحال.
ويقول إن أكثر ما يستهوي قادة الولايات المتحدة هو إعادة صنع العالم في صورة أميركا، بحيث تصبح عناصره الجوهرية هي المشاريع الحرة والفردانية، وما يطلقون عليه مصطلح القيم اليهودية المسيحية، وشيء آخر يطلقون عليه اسم «الديمقراطية».
ولنتخيل في هذا الإطار إذن حجم الصدمة التي مثلتها أحداث 11 سبتمبر، حيث يوضح بلوم ذلك بالقول: «نحن لا نتحدث هنا عن نوع الصدمة التي خبرها أمثالي وأمثالك في ذلك اليوم المصيري، بل صدمة إدراك أن شخصا ما تجرأ على إهانة الإمبراطورية وتوجيه ضربة لها! كانت صدمة أليمة للنظام العصبي السياسي؛ حيث يفترض القادة الأميركيون أن سلطة الولايات المتحدة الأخلاقية مثل قوتها العسكرية؛ مطلقة ولا يمكن تحديها!«
ويعبر رقميا عن واقع السياسات الأميركية «الديمقراطية» في العالم، فيقول: إن الولايات المتحدة قامت منذ الحرب العالمية الثانية، بالإطاحة أو بمحاولة الإطاحة بما يربو على خمسين حكومة أجنبية، كانت غالبيتها منتخبة ديمقراطيا، وتدخلت بأكثر من أسلوب، من بينها التأثيرات السياسية في الانتخابات الديمقراطية في أكثر من ثلاثين بلدا، كما حاولت اغتيال أكثر من خمسين زعيما أجنبيا، وأمطرت شعوب أكثر من ثلاثين بلدا بالقنابل، كذلك حاولت قمع حركات شعبية أو قومية في ثلاثين بلدا.
«ظل أهم الأهداف الجوهرية للسياسة الخارجية الأميركية استدامة، هو الحيلولة دون صعود أي مجتمع قد يصبح مثالا صالحا لنموذج رأسمالي بديل، وكان هذا هو جوهر الحرب الباردة».
هذا هو رصيد الولايات المتحدة من دعم الديمقراطية في العالم. ومن نافلة القول التأكيد على أن الباعث الرئيسي لهذه النوعية من التدخلات الأميركية الفتاكة -كما يؤكد بلوم- هو حماية المصالح الأميركية المختلفة عبر العالم، وضمان عدم منازعتها زعامة العالم، والقضاء على أية دولة أو حكومة تحاول أن تغير من النظرة الأميركية للسياسة العالمية.
الأهم من هذا المحتوى، هو كيف تنظر الولايات المتحدة لنفسها، ولهذا الذي تقوم به، وكيف تقوم بتلقينه للآخرين، وخصوصا الأجيال الجديدة داخل الولايات المتحدة.
ولعل أكبر الجرائم التي يجب التنويه بها من ضمن قائمة بعشرات الجرائم التي قامت الولايات المتحدة بها في حق الإنسانية -كما يؤكد بلوم- هي تلك التي تمت بحق محمد مصدق في إيران، في مطلع الخمسينيات، وأحمد سوكارنو، في إندونيسيا في الستينيات.
ففي الأولى، أسقطت الولايات المتحدة تجربة ديمقراطية متكاملة، مثلها مثل تجربة سلفادور ألليندي في تشيلي الذي كررت معه واشنطن ذلك، بعد مصدق بعشرين عاما، وكلاهما مع سوكارنو «عوقب» أميركيا، بسبب سعيه لامتلاك قرار بلاده السياسي، وفي حالة سوكارنو وألليندي، كان الثمن مئات الآلاف من الضحايا، بعضهم لم يُعرف مصيره إلى الآن، بعد اختفائهم على أيدي الشرطة السرية التي ساعدت المخابرات المركزية الأميركية في تأسيسها لدعم نظام سوهارتو بديل سوكارنو، ونظام بينوشيه، بديل ألليندي.
لا يقف الكتاب عند هذه النماذج فحسب؛ إنما يتوسع فيتناول حالات معاصرة، تأسست بعد كتابات بلوم السابقة، الذي يبدو أنه يعمل على تحديث أرشيفه للجرائم والانتهاكات الأميركية عاما بعد عام؛ فيتناول سياسات جورج بوش الابن، والجرائم التي تمت في أفغانستان والعراق، بعد أحداث 11 سبتمبر بزعم مكافحة الإرهاب، وكيف سقط في العراق ما يقرب من مليون ضحية بأيدي الأميركيين أو بسبب الأوضاع السياسية التي خلقتها الولايات المتحدة والغزو الأميركي للعراق، في هذا البلد.
كما يثبت بلوم كذب الولايات المتحدة في ما تزعم من أنها تتدخل في العالم عسكريا في بعض الأزمات من أجل حقوق الإنسان والانتصار للديمقراطية، فبجانب إطاحة أميركا مباشرة بحكومات وأنظمة منتخبة؛ فإن الولايات المتحدة لا تصدق في ما تقول في حالات مثل البوسنة والهرسك وكوسوفا وأزمات يوغوسلافيا السابقة بشكل عام؛ حيث يشير إلى أن التدخل السياسي والعسكري الأميركي في التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة في هذه المنطقة أدى إلى تفاقم الأزمات لا معالجتها، وأن مشكلة نازحي كوسوفا قد بدأت بعد القصف الأميركي الأطلنطي للقوات اليوغسلافية لا قبله!
ولا يستثني بلوم الربيع العربي، حيث أعطى مثالا على إجرام أميركا في تدخلاتها الخارجية، عندما ساعدت في إسقاط نظام العقيد الليبي معمر القذافي لتصفية خلافات وخصومات قديمة معه، ثم تركت البلد بعد ذلك للفوضى.
«أشار بلوم إلى أن الإعلام ونظام التعليم في الولايات المتحدة يؤسس الأجيال الجديدة والمجتمع كله على أساس مجموعة من الثوابت المتعلقة بالنظرة إلى «أميركا»، أو ما يسميه بالأساطير المؤسسة للسياسة الأميركية»
وقال: إن الولايات المتحدة في حالة ليبيا، وغيرها، تلجأ إلى تسويق معلومات غير صحيحة عن خصومها هناك، كما فعلت مع صدام حسين قبل غزو العراق في ربيع العام 2003، ثم عادت وقالت إن معلوماتها عن مساعيه لامتلاك أسلحة دمار شامل كانت غير صحيحة.
يفسر بلوم هذا السلوك الخارجي للولايات المتحدة، من خلال إطلالة على المنظومة التي يتم من خلالها تربية المجتمع الأميركي، وتأسيسه وتلقينه القيم الأساسية التي تريدها الصفوة المهيمنة على الإمبراطورية الأميركية، وهي صفوة مكونة من المجموعات المتحكمة في صناعات النفط والسلاح وصناعة الترفيه وأصحاب رؤوس الأموال الكبرى، بجانب الساسة المؤدلجين المنتمين إلى الأصولية البروتوستانتية.
وهو أمر لا يختلف فيه -بحسب المؤلف- أن يكون من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، فما جرى ويجري على يد الولايات المتحدة، تم في عهد إدارات جمهورية وديمقراطية على حد سواء.
وأشار بلوم إلى أن الإعلام ونظام التعليم في الولايات المتحدة يؤسس الأجيال الجديدة والمجتمع كله على أساس مجموعة من الثوابت المتعلقة بالنظرة إلى «أميركا»، أو ما يسميه بالأساطير المؤسسة للسياسة الأميركية، وعلى رأسها نظرية التفوق الأميركي، والرسالة «الأخلاقية» للولايات المتحدة في العالم، وأنه لا يجوز بالمطلق المساس بالمصالح الأميركية.
كما ينتقد بلوم في الإطار النمط الرأسمالي المتوحش -بحسب توصيفه- الذي تدافع عنه الولايات المتحدة، وتحاول تسويقه في العالم، باعتباره قائما على أساس الاستهلاك الشرِه، والإثراء غير المحدود الذي يتم في كثير من الأحيان دون تقديم أية خدمات نافعة للمجتمع.
هذه هي الولايات المتحدة كما يراها أهلها، ولئن كانت هناك مشكلة حقيقية تواجه المجتمعات الإنسانية -والعربية من بينها- كما يقول بلوم؛ فهي تكمن في عدم دراسة النموذج الأميركي كما ينبغي، وبالتالي محاولة تقليده، بينما كل ما يقود إليه ذلك، هو المزيد من التبعية للولايات المتحدة!
(أحمد التلاوي/الجزيرة)
يفسر بلوم سلوك خارجية الولايات المتحدة من خلال إطلالة على المنظومة التي يتم من خلالها تربية المجتمع الأميركي، وتأسيسه وتلقينه القيم الأساسية التي تريدها الصفوة المهيمنة على الإمبراطورية الأميركية، وهي صفوة مكونة من المجموعات المتحكمة في صناعات النفط والسلاح وصناعة الترفيه وأصحاب رؤوس الأموال الكبرى، بجانب الساسة المؤدلجين المنتمين إلى الأصولية البروتوستانتية.