العصمة.. مفهومها وحقيقتها إبراهيم الصغير

كثر في هذه الأيام الجدل العقيم حول مفهوم العصمة وحقيقتها، وتصدر لذلك بعض قليلي الزاد، ومثيري الفتن والقلاقل، ومشتري الشهرة والسمعة ولو على حساب دينهم وثوابته.
لقد أضحى الإعلام وجهة لكل مبطل، فلم تكد الأمة تنفك من شبهات وضلالات المدعو عصيد حتى خرج علينا غيره وغيرهم كثير ممن لم تتح لهم الفرصة.
فقد أصبح سياج الدين قصيرا جدا حتى عاد يتسلقه كل من هب وذب، وما ذاك إلا من تقصير أبنائه في الذود عن حماه، ولا يتأتى ذلك إلا بتعلم شرائعه لأن العلم -بعد الله تعالى- وحده الحافظ لسياج هذه الأمة.
فهب أن المسلمين تفقهوا في دينهم سلفا وأحاطوا بثوابته علما هل ستزعزعهم هذه الخرافات؟ أم هل ستثير انتباههم هذه الترهات التي لا تحتاج إلى رد؟
ذلك أن الرد عليها تقييم لأصحابها حتى يحققوا ما تصبوا إليه أنفسهم من الشهرة.
وأنا هنا لا أريد أن أخاطب من يريد الشهرة على حساب الدين، بل أريد أن أخاطب المسلمين جميعا بتأصيل مسألة العصمة تأصيلا علميا حتى تكون عندنا منعة من هؤلاء وتأويلاتهم الباطلة فأقول وبالله أستعين.
العصمة في اللغة تأتي بمعنى الإمساك والمنع.
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي -فِي كتاب العين-: (العصمة: أن يعصمك الله من الشر، أي: يدفع عنك، واعتصمت بالله أي: امتنعت به من الشر واستعصمت أي: أبيت).
قال ابن فارس -رحمه الله-: (العين والصاد والميم أصل واحد صحيح يدلّ على إمساكٍ ومنع وملازمة، والمعنى في ذلك كلِّه معنًى واحد، من ذلك العصمة: أن يعصم الله تعالى عبده من سوءٍ يقع فيه).
وقال ابن منظور- رحمه الله-: (العصمة في كلام العرب: المنع. وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يُوبقه. عَصَمَه يَعْصِمُه عَصْماً: منعه ووقاه).
قال ابن قتيبة -رحمه الله-:وَأما عصم فبمعنى منع وَمِنْه الْعِصْمَة فِي الدّين إِنَّمَا هي الْمَنْع من الْمعاصِي وَقَوله تعالى: {لاَ عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله} أَي لا مَانع. وَيُقَال قد عصمه الطَّعَام أَي مَنعه من الْجُوع.
أما اصطلاحا فقد عرفها الجرجاني بقوله: (العِصْمة: ملكة اجتناب المعاصي مع التمكين منها، والعصمة المُقَوِّمَةُ: هي التي يثبت بها للإنسان قيمة بحيث من هتكها فعليه القصاص أو الدية، والعصمة المؤثِّمة: هي التي يُجعل من هتكها آثماً).
وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (عصمة الله تعالى الأنبياء حفظه إياهم أولاً بما خصهم به من صفاء الجواهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية ثم بالنصرة، وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق).
إذن فالعصمة هي: حفظ الله لأنبيائه ورسله عن الوقوع في الذنوب والمعاصي وارتكاب المنكرات والمحرمات. ولا معصوم إلا من عصمه الله.
قال تعالى في شأن نبيه يوسف عليه السلام حكاية عن امرأة العزيز: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ} (يوسف32).
قال القرطبي: (فاستعصم) أي امتنع وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية. وقيل:(استعصم) أي استعصى، والمعنى واحد..
قال العلامة بن عاشور: واستعصم: مبالغة في عصم نفسه، فالسين والتاء للمبالغة، مثل: استمسك واستجمع الرأي واستجاب. فالمعنى: أنه امتنع امتناع معصوم، أي جاعلا المراودة خطيئة عصم نفسه منها.
وقال الله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوأَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) قال أهل التفسير: من ذا الذي يمنعكم من الله إن هو أراد بكم سوءاً في أنفسكم.
وقال عز وجل: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
وفي الحديث الصحيح: (فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم) أي: منعوا مني دماءهم وأموالهم.
إذن فالعصمة هي المنع والحفظ الذي يقع من الله على بعض عباده مما قد يتلبسون به من أنواع المعاصي.
إذا عرفنا ماهية العصمة فلمن تكون؟
العصمة منها العاصم والمعصوم، فالعصمة من الأول -حقيقة- لا تكون إلا لله وحده، فهو العاصم سبحانه وتعالى.
أما من الثاني فتكون لملائكته على خلاف بين المرسلين منهم وغير المرسلين، -وهذا الخلاف غير مؤثر كما سيتضح إن شاء الله- ولأنبيائه ورسله.
فالملائكة معصومون بنص القرآن قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم6).
قال الشيخ عمر سليمان الأشقر: بعدما تحدث عن عصمة الملائكة، قال: نقل السيوطي عن القاضي عياض: أن المسلمين أجمعوا على أن الملائكة مؤمنون فضلاء، واتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه، وأنهم في حقوق الأنبياء والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم .
واختلفوا في غير المرسلين منهم :وذكر الخلاف الوارد في ذلك، إلى أن قال: والصواب عصمتهم جميعاً وتنزيه جنابهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبهم وينزلهم عن جليل مقدارهم .
قال الرازي:(الجمهور الأعظم من علماء الدين اتفقوا على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب).
قلت وهذا قول جمهور العلماء أن الملائكة معصومون من الذنوب ومخالفة الله تعالى في أي أمر، وما ورد في القرآن مما يوهم غير ذلك فقد حمله العلماء على الوجه المناسب لعصمتهم.
قال الحافظ ابن حجر: (وعصمة الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام حفظهم من النقائص، وتخصيصهم بالكمالات النفيسة، والنصرة والثبات في الأمور، وإنزال السكينة).
يقول الخطيب البغدادي: أجمع أصحابنا على وجوب كون الأنبياء معصومين بعد النبوة عن الذنوب كلها، وقال: وأما السهو والخطأ فليس من الذنوب فلذلك ساغ عليهم.
ونقل الحافظ الإيجي: إجماع الأمة على عصمة الأنبياء من تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة، وعلى عصمتهم من الكبائر عمداً عند الجمهور، أما الصغائر فجائز عمداً أو سهوا.
ونقل شيخ الإسلام: عن الآمدي: أن القول بعصمة الأنبياء من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر الأشعرية.
وذكر إمام الحرمين أبو المعالي الجويني: أن عصمتهم من الفواحش المؤذنة بالسقوط وقلة الديانة تجب إجماعاً.
وقال القاضي أبوبكر: (والصّحيح تنزيههم من كلّ عيب، وعصمتهم من كلّ ما يوجب الرّيب).
قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات، قال: وقد ذهب بعضهم إلى عصمته من مواقعة المكروه قصدا.
فلتنظر أخي المسلم -علمني الله وإياك- هل تعدل عن أقوال هؤلاء العلماء إلى أولئك الأحداث.
يضاف إلى ذلك تقسيم مهم لا نخرج به الأنبياء والرسل -عليهم السلام- عن بشريتهم، فهم بشر معصومون فيما يتعلق بالتشريع والتكاليف السماوية التي نقلوها إلى أقوامهم، منزهون عن السهو والخلط بله الكذب والتغيير.
ومن ارتكب منهم معصية أوخطيئة فقد تاب الله عليه واجتباه بعد ذلك. فضلا عن خطئهم الهين في المسائل الدنيوية التي يتصرفون فيها بمحض بشريتهم.
يتفرع على هذا التقسيم تقسيم آخر يضم أنواع ومجالات العصمة حسب فترات الرسل والأنبياء قبل وبعد بعثتهم؟
فقد عاش الأنبياء والرسل حياة عادية وسط أقوامهم قبل الاصطفاء والاختيار بالنبوة والرسالة. وقد اختلفت كلمة العلماء تبعا لذلك في مجالات العصمة. فقبل بعثتهم يكونون معصومين من الكفر وكل المسائل الاعتقادية التي من شأنها أن تقدح في دعوتهم بعد البعثة. وهذا بإجماع أهل العلم.
فقد نقل عن القاضي الباقلاني قوله: (إنهم -أي الأنبياء- معصومون من وقوع الكفر، لأن الذي صح عند أهل الأخبار والتواريخ أنه لم يبعث من أشرك بالله طرفة عين وإنما بعث من كان تقياً نقياً زكياً أميناً مشهور النسب حسن التربية).
وقال القاضي عياض -في الشفاء-: (ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحداً نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك).
قال ابن حزم -في الفصل-: (فبيقين ندري أن الله تعالى عصمهم قبل النبوة من كل ما يؤذون به بعد النبوة..).
إذا كان الإجماع منعقدا على عصمتهم قبل البعثة فبعدها أولى وأشمل.
قال القاضي عياض -كما سلف آنفا-: “أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش، والكبائر الموبقات”.
وقال ابن عطية -في تفسيره-: (وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة).
وقد نقل الشوكاني -في إرشاد الفحول- عن الأصوليين أنهم (حكوا الإجماع على عصمتهم بعد النبوة مما يزري بمناصبهم كرذائل الأخلاق والدناءات، وسائر ما ينفر عنهم، وهي التي يقال لها صغائر الخسة كسرقة لقمة أو التطفيف بحبة).
فالقول بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، سرها وجهرها، عمدها وسهوها، هو ما ندين الله تعالى به، ونرجو مثوبته من الله -عز وجل-.
وما ثبت في حق نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من العصمة عن صغائر الذنوب عمداً وسهواً يثبت لغيره من الأنبياء والمرسلين إذ لا قائل بالفرق بينهم في ذلك على تفاضل في غيره.
والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *