يعتبر علم المنطق من العلوم التي عَدَّهَا كثيرٌ من أهل العلم علوماً ضرورية للفقيه أثناء عملية استنباطه واجتهاده، إذْ يعصمه من الزلل في فهم الشريعة وذلك بـ“معرفة نَصْبِ الأدلةِ وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلةُ منتجةً”[1] فهو بذلك “كناية عن مجموع القواعد والقوانين التي تجنب مراعاتها الوقوع في الخطأ”[2] ومن تَمَّكان شرطاً أَسَاساً في عملية الاجتهاد عند ابن رشد الحفيد والقرافي والزركشي والرازي وابن السبكي وغيرهم.
وكونه الوسيلةَ المميزةَ بين الحد الصحيح وما يجري مجراه من فاسده، وبين القياس الصحيح وما يجري مجراه من فاسده، ليست مسألةً متفقا عليها بين الأصوليين وإن جرت في أقوالهم مراعاته الذهن عن الخطأ في الفكر، إلا أنه لا يرقى لحد الشرط في تَسَنُّمِ الاجتهاد أو تَرَصُّدِ الأدلة، وأشهر من تزعم هذا؛ الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790هـ إذْ لا يَعُدُّهُ مطلقا من جملة العلوم والمعارف التي يفتقدها الفقيه عند الاجتهاد، بل لا حاجة له به، فلا يُرْجى من إعمالِهِ نَفْعٌ أو فائدةٌ، خاصةً عند الاستنباط الفقهي بَلْهَ التأصيلَ الشرعي، فمقدماته مخالفة لقواعد الشريعة ومقدماتها، وعليه قد يصل إلى الحرمة في بعض مراحلها.
ومعتمدُ الشاطبي فيما ذهب إليه من علماء الأصول بخصوص علم المنطق الأمور التالية:
أولا: أن علم المنطق مُؤَسَّسٌ على قواعد لا تجري عليها قواعد الشريعة: فهو مرسوم عند أهله على وفق الأشكال المعروفة ظاهرا المختلفة باطنا، ومُرَتَّبق على قياسات مركبة وغير مركبة قد توصل إلى المطلوب وقد تَضِلُ عنه، بما يعرف بالغلط المنطقي فلا يجري الشرع على وفقه وليس بطريق له في فهم التشريع، يقول الشاطبي:
واعلم أن المراد بالمقدمتين هاهنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق الأشكال المعروفة، ولا على اعتبار التـناقض، والعكس، وغير ذلك، وإن جرى الأمر على وفقها في الحقيقة فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح لأن المراد تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون وعلى وفق ما جاء في الشريعة وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير ما كان بديهيا في الإنتاج أو ما أشبهه من اقتراني أو استثنائي إلا أن المتحري فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما يكون ولأن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك فإطلاق لفظ المقدمتين لا يستلزم ذلك الاصطلاح“[3].
ومقصوده من ذلك أنَّ أقرب الأشكال في الوصول إلى المطلوب ما كان بديهيا في الإنتاج أو قريبا منه بالاقتران أو الاستثناء الجاري على عادة العرب في سياق خطابها ومعهود كلامها، لأن الحق سبحانه خاطب العرب “بلسانها على ما تعرف من معانيها”[4].
فمجرى المنطق قائم على القياس المركب وغير المركب وعلى الإدراكات المتساوية في المطابقة والتضمن والالتزام والمعقولات الثابتة، وهو أمر لا تجري على وفقه الشريعة إذْ بعض مطالبها وقتية وإدراكاتها ليست على جهة واحدة، يقول: “وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة وغير مركبة إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل، فليس هذا الطريق بشرعي، فإن ذلك متلفة ومحارة له قبل بلوغ المقصود، وهي بخلاف وضع التعلم، ولأن المطالب الشرعية، إنما هي -في عامة الأمر- وقتية فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا، فلو وضع النظر في الدليل غير وقتي لكان مناقضا لهذه المطالب وهو غير صحيح، وأيضا فإن الإدراكات ليست على فن واحد، ولا هي جارية على التساوي في كل مطلب إلا في الضروريات وما قاربها، فإنها لا تفاوت فيها يعتد، فلو وضعت الأدلة على غير ذلك لتعذر هذا المطلب ولكان التكليف خاصا لا عاما، أو أدى إلى تكليف ما لا يطاق، أو ما فيه حرج وكلاهما منتف عن الشريعة”[5] ومقصود الشاطبي من “المطالب الشرعية الوقتية” أي التي طُلِبَ فيها من المُكَلَّفِ القيامَ بها تواليا لا تراخيا.
كما أفاد الشاطبي أن مجرى المنطق عند أهله قائم على مقدمتين تكون الأولى موضوعا والثانية محمولا، فكأن الأولى وضعت لتحمل الثانية، فيصير محمول الأولى موضوع الثانية، وهذا لا يتفق مع مجرى الشريعة اتفاقا كليا، يقول: “وهذا وإن اتفق لهذا الأصولي ها هنا في موضع أو موضعين في الشريعة فإنه لا يستمر في سائر أقيستها ومعظم الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك ولا يعرف من هذه الجهة”[6] ويقصد به جعلهم قوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» مقدمة أولى والثانية: «وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر اتفاقي لم يجري على قصد المنطقيين لإمكان وقوع الاعتراض وعدم التسليم في قواعدهم.
وقد نوقش بعض من كلام الشاطبي هذا، فإمكانية غلط المنطقي لا تجعل منه سببا للرد أو الرفض، لأن الخطأ منه لا يصدر إلا عند عدم مراعاة قواعده، أي من المنطق أن يخطئ في المنطق إذا لم يحترم ضوابط المنطق، و“كون المنطق يميز بين الصحيح والفاسد من الحد والقياس لا يمنع غلط المنطقي إذا لم يراعه، كالنحوي إذا لم يراع أصول النحو فإنه قد يلحن”[7].
[1] – انظر المستصفى للغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي الناشر: صفحة 843.
[2] – انظر ابن حزم وآراؤه الأصولية لمحمد بنعمر، صفحة 40.
[3] – انظر الموافقات للشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان (5/418).
[4]– انظر الرسالة للشافعي، تحقيق: أحمد شاكر الناشر: مكتبه الحلبي، مصر الطبعة: الأولى، 1358هـ/1940م (1/50).
[5] – انظر الموافقات (1/59-60).
[6] – انظر الموافقات (5/419).
[7] – انظر الشفاء، العبارة، تحقيق سعيد زايد، المقالة الأولى، الفصل الثاني، صفحة 17.