يوميات مريض اركض برجلك.. الحلقة السابعة (الأخيرة)

لكل مواس حد ينتهي إليه:
مهما كانت رحمة المواسي ودرجة مواساته للمريض؛ فإن له حدا ينتهي إليه..
وقد رأينا كيف قال صاحب أيوب لأخيه: “تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين”!
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: “كان لأيوب أخوان، فجاء يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، قال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا”!
فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع مثله من شيء قط، فقال: “اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعانا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني”، فصدق من السماء وهما يسمعان.
ثم قال: “اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني”، فصدق من السماء وهما يسمعان..
كما تقدم قول زوجته رضي الله عنها: “يا أيوب؛ لو دعوت ربك لفرج عنك؟”، فقال: “قد عشت سبعين سنة صحيحا، فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟”.
فجزعت من هذا الكلام.
قال المؤرخون: “وكانت تخدم الناس بالأجر وتطعم أيوب عليه السلام.
ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها، لعلمهم أنها امرأة أيوب، خوفا أن ينالهم من بلائه أو تعديهم بمخالطته، فلما لم تجد أحدا يستخدمها، عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير، فأتت به أيوب، فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره.
فقالت: خدمت به أناسا.
فلما كان الغد لم تجد أحدا فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به، فأنكره أيضا، وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام؟ فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقا نادى ربه في دعائه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
فانظر إلى هذه المرأة العظيمة؛ كيف ضحت إلى آخر “شعرة”، ومع ذلك وصلت إلى حد وقفت عنده مضطرة مكرهة..

ألا كل شيء ما خلا الله باطل..
وهذا يعطي المريض درسا بليغا؛ يحمله على صدق التوكل على الله تعالى ويرشده إلى ضرورة قصر التعلق به سبحانه، وأن المعول عليه أولا وآخرا إنما هو الله عز وجل..
قال الله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} “أي: إلى الله المنتهى في كل حال؛ فإليه ينتهي العلم والحكم، والرحمة وسائر الكمالات”.
توكل على الله في النائبات … ولا تبغ فيها سواه بديلا
وثق بجميل صنيع الإله … فما عوَّد الله إلا جميلا
ومن هنا كان ذلكم التوجه من أيوب عليه السلام إلى ربه تبارك وتعالى.
الرضا التام…
ونسجل هنا؛ أنه لم يحفظ عن نبي الله أيوب أنه تكلم بكلمة تشم منها رائحة التسخط أو الجزع، وقوله: “مَسَّنِيَ الضُّرُّ”؛ دعاء وليس شكوى لغير الله..
وقد يظن أنه بهذا كان أكمل من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال: “بل أنا وارأساه”.
وقد بدا لي جواب على هذا الإيراد؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك تعليقا على عائشة حين اشتكت إليه بقولها: “وارأساه”، فقال: “بل أنا وارأساه”.
فهو نوع مواساة للتخفيف عنها بإظهار أن لها شريكا فيما تعاني منه..
فإن مما يخفف على المبتلى؛ أن يعلم بأن له شريكا في بلائه؛ كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي … على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن … أعزي النفس عنه بالتأسي
يذكرني طلوع الشمس صخراً … وأذكره لكل غروب شمس

تحية إكبار وإجلال..
وهنا أجدني مدفوعا لتوجيه تحية إجلال إلى أولئك الصابرين الراضين الذين لا تكاد تسمع منهم شكوى لغير الله..
قال لي أحدهم: “إذا كان الله أخذ منا شيئا فلقد أبقى لنا أشياء”.
وكان أحدهم لا يجيب السائل عن حاله بغير الحمد؛ كلما سئل قال: “الحمد لله”.
وثالث كانت الابتسامة لا تفارق محياه، وكأنه جعلها عنوان رضاه وتسليمه، ورابع: يعتصره الألم فلا تسمع في تأوهه1 إلا: يا الله.. يا رب..
فلهم مني أزكى التحية وأسمى عبارات الإجلال والإكبار..

دعاء وأدب..
لما رأى أيوب عليه السلام اشتداد البأس على زوجته؛ طلب العافية من ربه وحده لا شريك له، وكان دعاؤه الذي ذكره الله عنه محفوفا بالأدب مع الله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].
وفي سورة “ص”: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41].
قال المفسرون: “المس: الإصابة الخفيفة؛ والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله؛ إذ جعل ما حل به من الضر كالمس الخفيف”.
قال في التحرير والتنوير (17 / 127):
“وفي قوله تعالى: {وأنت أرحم الراحمين} التعريض بطلب كشف الضر عنه بدون سؤال؛ فجعل وصف نفسه بما يقتضي الرحمة له، ووصف ربه بالأرحمية تعريضا بسؤاله، كما قال أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما … كفاه عن تعرضه الثناء”اهـ
وقد راعى أيوب الأدب مع ربه أيضا في قوله: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} حيث لم ينسبه إلى الله..

الفرج بعد الشدة..
وهنا يأتي الفرج بعد الشدة؛ مصداقا لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: “واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا” [رواه عبد بن حميد في مسنده].
قال الله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}؛ أي اضرب الأرض برجلك، فأنبع الله له عينا باردة الماء، وأمره أن يغتسل فيها ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والمرض..
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث “اليوميات”: “وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحي إلى أيوب أن {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}.
فاستبطأته، فتلقته تنظر وقد أقبل عليها، قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو أحسن ما كان (أي جمالا وبهاء).
فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك؛ هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ والله على ذلك؛ ما رأيت أشبه منك إذ كان صحيحا”.
فقال: فإني أنا هو”.
قال المؤرخون: “وأخلف الله له أهله؛ كما قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} فقيل: أحياهم الله بأعيانهم، وقيل: آجره فيمن سلف، وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة.
وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي رفعنا عنه شدته، رحمة منا به ورأفة وإحسانا.
{وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب؛ حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه.
إكرام وبركة..
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثنا: “وكان له أندران (أي بيدران، والبيدر خزان كبير): أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورِق (الفضة) حتى فاض”.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد (أي جماعة جراد) من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه.
فناداه ربه عز وجل: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك” [رواه البخاري].
قال الحافظ ابن كثير: “عاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية، ثم غيروا بعده دين إبراهيم”.
وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ أنه أوصى إلى ولده “حومل”، وقام بالأمر بعده ولده “بشر” بن أيوب، وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه “ذو الكفل” والله أعلم..
——————————–
1- قال العلماء: “لَا أحد من بني آدم إلاَّ وَهُوَ يألم من الوجع ويشتكي من الْمَرَض إلاَّ أَن المذموم من ذَلِك ذكره للنَّاس تضجراً وتسخطاً، وَأما من أخبر بِهِ إخوانه ليدعوا لَهُ بالشفاء والعافية وَأَن أنينه وتأوهه استراحة فَلَيْسَ ذَلِك بشكوى”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *