شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

وإن يكن ليس له مخدوم              ففعـلـه كمثـل ذا مـذمــوم
لأنه لهـو وشغـل شاغـل              بغيـر ما ينـال منه طـائـل
كلاهـمـا مستـنـد للخبــر             ويقتضيهما صحيح النظر

«و» أما «إن يكن» مباح ما «ليس له مخدوم» سواء كان مطلوبا أو غير مطلوب «ففعله» أي هذا الصنف من المباح «كمثل ذا» الذي تقدم أنه مبغض، فهو «مذموم» شرعا.

«لأنه لهو» لعب «وشغل شاغل بغير ما ينال» أي يدرك ويحصل «منه طائل» أي أمر مفيد كالسعة والغنى والقدرة والفضل والعلو.

«كلاهما» أي الحكمين المذكورين في المباح الذي يخدم النقص والهدم، والمباح الذي يخدم شيئا «مستند للخبر» أما الأول فهو مستند لقوله صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال عند الله الطلاق»(*) وأما الثاني فمستند لقوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل ما يلهو به الرجل المسلم باطلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهنَّ مِن الحق»؛ وما نقل عن السلف أنهم كانوا يكرهون أن يرى الرجل في إصلاح معاش ولا في إصلاح معاد، لأنه قطع للزمان في ما لا ترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية، وغير ذلك مما هو وارد في هذا الشأن من النصوص الشرعية والآثار؛ «و» كذلك «يقتضيهما» يعني يحكم بصحتهما ويوجبهما «النظر» العقلي السليم، لأن في ذلك كله دفعا يعني للمصلحة وجلبا للمفسدة، وهو ما تحكم العقول السليمة بذمه، وقبحه.

وحيثمـا قد جـاء ذم الدنيـا            فهو بهذا اللحظ دون ثنيا
ثم لذا التقرير أصل انبنى            عليه حكمـه سأبديـه هنـا

«وحيثما قد جاء ذم الدنيا» وذم التمتع بلذاتها «فـ» إن المقصود بذلك «هو» ما كان «بهذا» أي مع هذا «اللحظ» أي اعتبار المذكور، وهو من أي خدمة تهدم أصل ما هو مطلوب شرعا، أو الخلو من أي شيء «دون ثنيا» أي استثناء، فإنه لم يذم من الدنيا والتمتع بلذاتها إلا ما كان من هذا الذي ذكر؛ وكل ما ليس كذلك فإنه مذموم شرعا بدون استثناء، وكل ما ليس كذلك فهو غير مذموم بلا استثناء أيضا.

«ثم لذا» أي لهذا «التقرير» الذي أوردناه في شأن هذا التقسيم للمباح زيادة على ما تقدم ذكره من الأدلة النصية والاقتضاء النظري «أصل» معتمد في هذا الشأن «انبنى عليه حكمه» أي حكم هذا التقرير وهذا الأصل «سأبديه» أي سأظهره «هنا» في هذا الموضع وهو الذي سأذكره في المسألة الموالية.

المسألة الثانية

من مسائل الأحكام التكليفية الخمسة، وهي مسألة كون الإباحة بحسب الكلية والجزئية تتجاذبها الأحكام البواقي، وفي ذلك يقول الناظم:

أما اختلاف جانب المباح            بالجـزء والكل فذو إيضـاح
فكل ما كان بحكم الأصل            بحسب الجزء مبـاح الفعـل
يكون بالكل من المطلوب            إما على الندب أو الوجوب
مثـل التمتعـات بالمـآكــل            والبيـع والجمـاع للحلائــل

«أما اختلاف جانب» يعني حكم «المباح» باعتبار «الجزء والكل فـ» هو أمر «ذو إيضاح» أي ظهور، فهو بين جلي.

«فكل ما» أي فكل فعل «يكون بحكم الأصل» الشرعي فيه، «بحسب الجزء» أي باعتبار كونه جزء «مباح الفعل» والترك فإنه قد «يكون بـ» حسب «الكل من المطلوب» فعله شرعا، «إما على» جهة الندب «أو» جهة «الوجوب» وكذلك قد يكون مباح بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع، فهذه أربعة أقسام.

أما القسم الأول، وهو المباح بالجزء المندوب بالكل، فهو «مثل التمتعات» الانتفاعات والتلذذات، وقد أتى بصيغة الجمع هنا تبعا لما أضيفت له وهو «المآكل»، فكأنه رأى أن التمتع يتنوع بتنوع المأكول، ومثل المآكل المشارب والمراكب والملبوسات، فإن ذلك كله مباح بالجزء مندوب بالكل.

وأما القسم الثاني وهو ما يكون مباحا بالجزء واجبا بالكل فهو مثل «البيع» والأكل والشرب «والجماع للحلائل» جمع حليلة وهي الزوجة، فهذا كله وما أشبهه جائز بالجزء، فاختيار أحد هذه الأشياء على ما سواها جائز؛ وكذا تركها في بعض الأحوال والأزمان أو ترك بعض الناس لها، فكل ذلك جائز، وأما لو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك فإن ذلك ترك لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول، فيه واجبا بالكل.

وأما القسم الثالث والرابع، وهو ما يكون مباحا بالجزء مكروها بالكل أو حراما، فقد أورده قائلا:

أو قد يرى بالكل عنه قد نهى        كراهـة أو للحـرام ينتـهـي
مثـل التنزهـات في البـطــاح        أو فعـل قـادح مـن المبـاح

«أو قد يرى» المباح بالجزء «بالكل عنه قد نهى» وذلك النهي قد يكون للـ «كراهة أو للحرام ينتهي» مقتضاه والذي نهى عنه نهى كراهة هو مثله.

و «التنزهات في» البساتين «والبطاح» -بكسر الباء، مفرده بطاح وهو المسيل الواسع فيه دقاق الحصى- فالتنزه في ذلك كله ومثله سماع أصوات الطير مباح بالجزء مكروه بالكل، وأما المباح بالجزء المحرم بالكل، فقد أورد مثاله بقوله «أو فعل قادح» في العدالة «من المباح» وذلك كالأكل في السوق ودخول الحمام لغير ضرورة فإنه قادح في العدالة موجب لصفة الفسق.

قال الغزالي: إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، كما أن المداومة على الصغيرة قد تصيرها كبيرة.

فـصــل

في أن المندوب بالجزء قد يكون واجبا بالكل، قال الناظم:

وفعل ما بجزء في المندوب                   يكون بالكل على الوجوب

«وفعل ما» هو «بالجزء» معدود «في المندوب» قد «يكون بـ» حسب «الكل على» حكم «الوجوب»، وذلك كالآذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة وصلاة العيدين والفجر والعمرة، وكذا سائر النوافل والرواتب، فإنها مندوب إليها بالجزء ولو فرض تركها جملة يحرم التارك لها؛ وإن تمالأ قوم على ترك الآذان فإنهم يقاتلون على ذلك.

فـصــل

في أن المكروه بالجزء يكون حراما بالكل، قال الناظم:

والفعل للمكروه بالجزء يرى        بالكل ممنوعا إذا ما اعتبرا

«والفعل» أمر «للمكروه بالجزء» شرعا قد «يرى» أي يصير ويكون «بـ» حسب واعتبار «الكل» أمرا «ممنوعا» أي محرما شرعا «إذا ما اعتبرا» ذلك الكل ونظر في حقيقة حاله، وذلك كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة، وسماع الغناء المكروه، فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح في العدالة، فإن داوم عليها قدحت في عدالته؛ وذلك دليل على المنع بناء على أصل الغزالي.

قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج: إن كان يكثر منه ويشغله عن الجماعة لم تقبل شهادته، وكذلك اللعب الذي يخرج به عن هيئة أهل المروءة، والحلول بمواطن التهم، وما أشبه ذلك.

فـصــل

في أن الواجب بالجزء، إذا كان مرادفا للفرض، يكون واجبا بالكل، إلا أن حكم الكل في ذلك أقوى من الجزء، قال الناظم:

وما يكون واجبا من أصل           يجب بالجزء معا والكل

وحكـمـه بحسـب الكـلـيــة           مختلف وحسب الجزئية

«وما» يعني وكل فعل «يكون واجبا» فرضا «من أصل» فلم يكن الوجوب طارئا عليه، وإنما كان حكمه الشرعي الأصلي هو الوجوب، فإنه «يجب بالجزء» كما تقدم ذكره «معا والكل».

«و» لكن «حكمه» أي حكم ذلك الواجب «بحسب» واعتبار «الكلية مختلف و» أي مع «حسب» اعتبار «الجزئية» وهذا بيّن، أما من حيث الجواز فإنه إذا كانت الظهر المعينة فرضا على المكلف يأتي بتركها، ويعد مرتكب كبيرة، فينفد عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله، فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك. وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة مع من كثر ذلك منه وداوم عليه، وما أشبه ذلك، فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها؛ وأما بحسب الوقوع فقد جاء ما يقتضي ذلك؛ كقوله عليه السلام في تارك الجمعة: «من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه» فقيد بالثلاث كما ترى، وقال في الحديث: «من تركها استخفافا بحقها أو تهاونا» مع أنه لو تركها مختارا غير متهاون ولا مستخف لكان تاركا للفرض، فإنما قال ذلك لأن مرات أولى في التحريم، وكذلك لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون؛ وانبنى على ذلك في الفقه أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر، لم تجز شهادته، قاله سحنون.

وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إذا تركها مرارا لغير عذر لم تجز شهادته، قاله سحنون؛ وكذلك يقول الفقهاء في من ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك: إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة، فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته، وصار في عداد من فعل كبيرة، بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة. هذا كله عند من يرى أن الواجب مرادف للفرض.

يتبع..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)- حديث لا يصح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *