ربما لم يكن غريبا ولا مستغربا أن نجد في كل بلد عربي وإسلامي اتهامات تّكال بالجملة لمناهج التربية والتعليم، ودائما يكون على رأسها مادة التربية الإسلامية وتعاليم الإسلام.
والسؤال الذي يفرض نفسه هو: منذ متى كانت التربية الإسلامية تزرع الأفكار المتطرفة وتشجع على الإرهاب والخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين؟
والجواب على هذا السؤال يحتاج إلى تفصيل قد يستوعب حلقات، لكننا من أجل تقريب المعنى العام للأفهام، لا بد وأن نعيد النظر قليلا إلى الماضي القريب ليتضح لنا أن هذه الاتهامات والدعوات بالتغيير أو لنقل بتدمير ما تبقى من حصون هذه المرجعية العتيدة ليست بالجديدة علينا اليوم في تخريجاتها وتمظهراتها.
ففي عام 1979 أُنْشِئَ ما يُسمَّى بـ”منظمة الإسلام والغرب“([i])، تحت رعاية منظمة الثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة (اليونيسكو)، والتي تشكَّلت من خمسة وثلاثين عضوًا، عشرة منهم مسلمون، وكان من أول أهداف المنظَّمة الجديدة -كما نص دستورها صراحةً- علمنةُ التعليم؛ حيث جاء فيه: «إنَّ واضعي الكتُب المدرسية لا ينبغي لهم أن يُصْدِرُوا أحكامًا على القِيَم، سواء صراحة أو ضِمنًا، كما لا يصحُّ أن يقدموا الدين على أنه مِعيار أو هدف»، ونصَّ أيضًا على أن: «المرغوب فيه أن الأديان يجب عرضُها ليَفهم منها الطالب ما تشترك فيه ديانة ما مع غيرها من الأديان، وليس الأهداف الأساسية لدينٍ بعينه»، وهو ما يسير في إطار عَوْلَمة الأديان، وجمعها في إطار واحد!!
ولكي تفعّل هذه البنود على أرض الواقع، وجَدت هذه الخطة الغربية التغريبية طريقا مكشوفا لها، فظهرت للملأ علنا وبإصرار ومتابعة ودعم مالي وتكويني وتعاوني… منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، عندما طالبت الولايات المتحدة الأمريكية الحكومات العربية بإعادة النظر في مناهجها التعليمية الدينية، وقد استجابت بعض الدول الخليجية، ثم تلتها دول عربية أخرى دون تأخر أو نظر.
وقد نجحتْ هذه الجهات الداعمة في استغلال الأحداث لبدْءِ حملة مفتوحة على ما تُسميه “الإرهاب”، وأعلنتْ صراحة عن خططها الرامية إلى استبدال تلك النظم القائمة بالفعل بِنُظُمٍ تعليمية علمانية ترتضيها، سيما أنها رأتْ أن هذه النظم شكلت أرضا خِصبة، ساعدتْ على “تفريخ” الخلايا والتنظيمات الإرهابية الإسلامية على حد زعمها.
ولعل ما يؤكد قولنا، أن الإدارة الأمريكية باتتْ عازمة على تحقيق سيطرتها الثقافية على المنطقة، وهو ما اعترف به أحدُ تقارير وزارة خارجيتها حول تلقِّي بلدان في منطقة الشرق الأوسط في عام 2002 وحدَه 29 مليون دولار مِن أجْلِ ما أسماه: “جهود تغيير نظم التعليم”، وفي عام 2003 وصل الإنفاقُ الأمريكي في نفس الإطار إلى ثلاثة أضعاف؛ حيث قفز إلى 90 مليون دولار، كما شهد عام 2004 زيادة كبيرة في المبالغ المخصصة لتغيير التعليم في العالم العربي والإسلامي؛ حيث ضخَّت الإدارة الأمريكية آنذاك 145 مليون دولار مِن أجل تحويل التعليم في المدارس الإسلامية في المنطقة العربية إلى تعليم علمانيٍّ، خصَّص منها 45 مليون دولار فقط للعالم العربي، والباقي خُصِّص لبقية الدول الإسلامية.
وتتميما لهذه الخطوات وُضعت المخطَّطات والبرامج الدقيقة في هذا الجانب، ونُسِجَت المؤامَرات للغارة على الأفكار والمفاهيم الإسلامية، وعلى كلِّ ماله صِلَة بالإسلام؛ أمَّة وحضارةً وفكرًا، وأضحت قاعدتهم التي ارْتَكَزُوا عليها هي: “إذا أرهبك عدوُّك، فأفْسِد فِكْرَه ينتحر به، ومِن ثَمَّ تستعبده“، فانتقلتِ المعركةُ من ساحة الحرب إلى ميدان الفكر والثقافة([ii]).
ومما يزيد الأمر وضوحا وتأكيدا في هذا المقام، ما صرح به الكاتبُ الأمريكي الجنسية، اليهودي الديانة، “توماس فريدمان”(Thomas Loren Friedman)، وهو من أشد المفكرين اليهود تطرفا وتصهينا، حيث كتب قائلا في صحيفة نيويورك تايمز: «الحرب الفكرية تشغل حيِّزًا هامًّا وكبيرًا في الأجندة الغربية في حرْبِها على الإسلام، والمناهج الدينية تعتبر العنصر الأهم في هذه المعركة الفكرية، ثم أردف قائلاً: إن الحرب الفكرية هي الأهم في نظر الأمريكان! وإنَّ تغيير النِّظام الاجتماعي وأساليب الحكم ومناهج التعليم، هي الجزءُ الأكبر من المعركة مع العالم الإسلامي»([iii]).
لقد أبرز احد الباحثين في بحثه الذي قدمه إلى المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي في مكة المكرمة سنة 1977 بأن الاحتلال الفرنسي اتخذ الترتيبات اللازمة لجعل التعليم في المملكة المغربية تعليما علمانيا، يهدف إلى تربية الولاء الكامل لفرنسا في أبناء الشعب المغربي العربي المسلم، ويتحلل من ولائه لدينه وقومه([iv]).
إن تربيتنا الإسلامية كانت ردحا من الزمن عنوانا للعلم والتميز والنبوغ والتسامح والعطاء المتجدد للنصح والإصلاح ونشر القيم الروحية السمحة التي ظلت صمام أمان للمجتمع برمته، بل نجدها حافظت على لحمة المجتمعات الإسلامية منذ زمن الاستعمار وطمس الهوية الدينية والثقافية للبلد، فكانت حصنا حصينا بدءا من المسجد ودور القرآن والكتّاب القرآني، حيث حمل العلماء والدعاة والفقهاء شعار السلم والعدل والمساواة والإنصاف والعبودية لله الواحد القهار والتحرر من كل العبوديات المادية والاستعمارية والإلحادية… ولايزالون -ولله الحمد- يحملون المشعل الرباني من جيل إلى جيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وليمحص الله الصادقين من الكاذبين والمنافقين والمتلاعبين بالدين الذين يزيّنون القول من أجل صد الناس والمجتمع عن نور الحق المبين.
هذا، وإنه لا يخفى على ذوي العقول المتبصرة، أن مدرسة التربية الإسلامية تخرّج منها وعلى مرّ تاريخها المجيد العديد من العلماء الأجلاّء والأئمة النجباء، من أمثال العلامة المختار السوسي، والفقيه عبدالله كنون، والشيخ أبو شعيب الدكالي، والفقيه ابن العربي العلوي، كما أنجبت كذلك العلامة النابغة أحمد بنسليمان الرسموكي والأستاذ علال الفاسي والحافظ الشيخ الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، وغيرهم كثير جدا، لا يسعنا استقصاؤهم وتتبعهم، والباحث الحصيف يجد المصادر والمراجع حبلى بهم، رحمهم الله جميعا وأجزل مثوبتهم-.
أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ **إذا جَمَعَتْنا ياجَرِيرُ المَجَامِعُ
وما يُثلِجُ الصدْر بالفعل ويؤكِّد صحة ما نُشير إليه: أن مناهجنا الإسلامية والقرآنية كان لها الدور الكبير في المحافظة على وحدة مجتمعنا وأمنه واستقراره، أمام تلك التحديات التي واجهته ولا تزال مِن جرَّاء الأحداث الساخنة التي تحيط به، ومن حمايته من تيار الغُلُوّ والتطرف والتكفير وإثارة النَّعرات والفتن الطائفية، وما صاحب هذا المدَّ من ممارسات وجرائم بَشِعة ومُدَمِّرة ارتُكبت باسم الإسلام، والإسلام منها براء. ومن هنا فأسباب “التطرف” بجميع أشكاله تتجاوز إصلاح التعليم في المغرب أو بقية الدول العربية.
وبناء على هذا، وجب البحث عن منابع أخرى يستقي منها هؤلاء التطرف والغلو، وتجنيب جعل التربية الإسلامية شماعة يعلّق عليها العلمانيون والإلحاديون هزيمتهم النفسية والفكرية داخل المجتمع العربي والإسلاميبصفة عامة من أجل النبش في كل صغيرة وكبيرة في مثل هذه المواضيع والمناسبات.
1- تبنت كل من اليونسكو UNESCO)) والأليسكو ( (Alesco ومؤسسات أخرى غربية قيام هذه المنظمة العالمية الخبيثة، والتي أطلقوا عليها اسم “الإسلام والغرب”، وقد تخصصت في الدس على المناهج والمقررات الدراسية في العالم الإسلامي، وبخاصة مادة التاريخ والدين الإسلامي، وأشرف على رئاستها الدكتور معروف الدواليبي والسيد براونو المدير العام اللورد كارادون الذي كان لها لنفوذ الأكبر هو والأمين العام الدكتورة مارسيلبو اسار اليهودية السويسرية. وقد عقدت أول ندوة استشارية حول التوصل إلى تفاهم أفضل بين الإسلام والغرب عن طريق تغيير مناهج التاريخ والعقيدة الإسلامية!! وقد تم ذلك بالفعل في فينيسيا (البندقية) بإيطاليا في المدة من 16 إلى 20 أكتوبر 1977م. ينظر: المؤامرة على التعليم، مؤلف جماعي لحسن جودة وآخرون، ص 81-84، والاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري لمحمود حمدي زقزوق، ص 115، ونظرات في حركة الاستشراق لعبد الحميد مدكور، ص7. وممن كتب عن هذه المنظمة وتطاولها على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم: الدكتور محمد السمان في كتابه الشهير “مفتريات اليونسكو على الإسلام”.
2- ينظر: الغزو الفكري لأحمد السايح، ص 51.
3- شبكة الرد ـالسبت 9 شعبان 1427هــالموافق 2 سبتمبر 2006م.
4- قدّم هذا البحث الأستاذ عبدالكريم بنجلون في مؤتمر مكة المكرمة العالمي حول التعليم الإسلامي في العالم العربي والإسلامي، سنة 1977م.