البركة وأصحابها وأنواعها والمنتفعين بها 4 الدكتور محمد أبو نجيب

عرفنا في الحلقات المتقدمة أربعة أنواع من البركة، وأربعة أنواع من مصادرها: بركة طلاب حفظ القرآن، وبركة طلاب العلوم الشرعية، وبركة أستاذ هؤلاء، وبركة مؤدبي أولئك!

لكن يبقى كيف تصدر البركة عن هذا الرباعي من جهة؟ وكيف تسري إلى المنتفعين بها من جهة ثانية؟
سؤالان نطرحهما على علمائنا، كانوا منتمين إلى المجالس العلمية الجهوية؟ أو كانوا محسوبين عليها؟ أو كانوا معدودين من أعضاء المجلس العلمي الأعلى؟ أو كانوا ضمن أي حركة أو حزب أو جماعة؟
أما النوع الخامس من البركة، فيتوفر بامتياز لدى مشايخ الطرق الصوفية! بينما يتوفر النوع السادس لدى مريدي، أو لدى أتباع هؤلاء المعروفين بـ”الفقراء”، أو بـ”الدراويش” ككلمة أصبحت مع مرور الأيام تعني المتسولين أو المتكففين!
فقد عرف المغرب عبر تاريخه الطويل شيوخا صوفيين! يوصفون مرة ب”الصالحين”! ومرة بـ”أولياء الله”! ومرة بـ”أهل الله”! ومرة بـ”رجال البلد”! الذين يوجد من بينهم المسمى بـ”مول النوبة” المسؤول دوريا عن حماية حدود سلطنته! لما له من قدرات خارقة، هي قبل كل شيء وبعد كل شيء، ما ينسب إليه من كرامات لولاها ما كان له من البركة ما يغدقه على طلابها وهو حي يرزق! كما يغدقه عليهم وهو راحل عن هذه الدنيا الفانية!
والأمثلة المعتمدة لدينا لتأييد ما ذهبنا إليه، وتأكدنا منه، وتشبثنا به، يزخر بها أكثر من مؤلف يحوي تراجم عشرات وعشرات من أهل الصلاح المفترضين المرموقين في مختلف العصور. فلو فتحنا مثلا كتاب “التشوف إلى رجال التصوف” للتادلي المعروف بابن الزيات المتوفى سنة 617هـ. والذي قام بتحقيقه وزيرنا في الأوقاف: أحمد التوفيق! لأصِبْنا بالذهول الذي يفاجئنا كقطران مر يسيح بين السطور أو يسري كالدم في عروق الكلمات متى افترضناها كائنات لها حياتها ولها لغتها الخاصة على حد ادعاء ابن عربي الحاتمي!
قال ابن الزيات في ترجمته لأول ولي مغربي هو ابن سعدون. “حدثني علي بن عيسى عن شيوخه أن فقيها من فقهاء أغمات وقف عند قبر ابن سعدون. فسمع بعض الصالحين يتكلم معه. فقال له ذلك الصالح: سمعتك تتكلم عند قبر ابن سعدون. فقال له ذلك الفقيه: أنت رجل صالح، ولولا ذلك ما حدثتك، فاكتم علي! أشكلت علي مسألة، فبحثت عنها، فلم أجدها، فأتيت قبر ابن سعدون فذكرت له المسألة، فقال لي من قبره: اطلبها في الديوان الفلاني!!!
وفي ترجمته لثاني ولي هو أبو زكرياء يحيى بن لا الأذى الرجراجي يقول: “حدثوا عنه أنه أخذ ذات يوم منجله لقطع شجر السدر، فبينما هو يقطعه، إذ صادف رجل قنفذ فكسرها. فآلمه ذلك وقال: اسمي يحيى بن لا الأذى. فإذا أنا يحيى بن الأذى! أوذي خلق الله! فأخذ القنفذ، فربط رجله بجبائر وأدخله في خابية، فكان يسقيه الماء! ويطعمه التين والزبيب إلى أن انجبر فذهب”!!!
وفي ترجمته لثالث ولي هو: أبو عبد الله الرجراجي قال: “وحدثوا عنه أن أبا زكرياء المليجي جاء إلى داره ليزوره. وكان طرف قوس قزح عند باب داره. والطرف الآخر في موضع آخر! فلما خرج أبو عبد الله من داره قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وجعل رجله على طرف قوس قزح! فلم يزل يمشي عليه إلى أن هبط في الطرف الآخر! فصاح أبو زكرياء المليجي وقال: وصل الرجال إلى هذه المنازل وأنا هكذا. وخر مغشيا عليه. فلما أفاق هام على وجهه. ثم أقبل على الجد والكد إلى أن لحق بالأفراد”!
هؤلاء وأمثالهم من المهابيل -وبدون أدنى تعليق- هم الذين كانوا فيما مضى متخصصين في صنع الكرامات التي أهلتهم كي يصبحوا في نظر السذج مقدسين. ينتفعون ببركاتهم حتى الآن. من كانت ولا تزال تنقصهم معرفة دقيقة بفحوى رسالة النبي الخاتم! وخاصة معرفة التوحيد الذي لا يقبل أي نوع من أنواع الشرك الأصغر أو الأكبر!
لقد بنيت أضرحتهم كتقدير من بُناتها لما لهم من أياد بيضاء على من جاورهم من المحظوظين! ثم رفعت على تلك الأضرحة قباب! ثم أصبحوا مقصودين للزيارة والتبرك! ثم تأكد للزوار أن لا بركة يحصلون عليها إلا بدفع المقابل، ومن ضمن هذا المقابل مسمى “المعروف” الذي يذبح في أقبية أضرحتهم تلك. حيث يحضر الجيران والأهل والأقارب والطلبة والإمام المدرس المربي!
وكنا ونحن تلاميذ أو طلبة من الحضور الذين يجدون أنفسهم في أجواء من الطبيعة الطابعة والمطبوعة المتداخلتين: طابعة لأنها لم تمتد إليها يد الإنسان بالتغيير. ومطبوعة لأنها من صنعه! نقصد الحدائق التي تتوفر على مغروسات مثمرة. يبيح لنا المحتفى بموسمه أو بمولده تناول ثمارها كما نحب ونرضى! إنها وصيته قبل وفاته بجعل البساتين المحروسة “فياعا” لا اعتراض على تمتعنا داخلها بفرص الآصال والبكور كشبان، طوال مدة الاحتفال بموسمه!
نقصد حرية الوافدين عليه وحرية المقيم حوله مثلنا في التنزه كما يحلو لهم أن يتنزهوا، إنما برضى كامل من المقبور المزور الذي شرع لهم “فياع” بعد وفاته كي ترتبط ممارسته بتخليد ذكراه على اعتبار أنه من الخالدين!
دون أن نغض طرفنا هنا عن السلكة أو السلكات التي “نخرجها” في أيام الموسم السبعة. ناهيك عن “بردة” البوصيري وعن “همزيته” اللتين كنا شغوفين بوقعهما في النفوس! مع أننا كنا باستمرار ذاهلين عن جانب من جوانبهما الصوفية! كما استمر علماؤنا وفقهاؤنا وطلاب العلم وحملة القرآن عندنا حتى الآن في الذهول نفسه الذي كان يشملنا بعطفه حتى تظل قداسة البوصيري متعالية عن أي انتقاد وعن أي تجريح!
ودون أن ننسى التمتع بالمأكولات التي يحضرها سكان البلدة إلى المحتفلين بمناسبة ميلاد السيد! أو بمناسبة وفاته! أو بمناسبة تنظيم موسمه! فضلا عن الأطعمة التي يتم طهيها في عين المكان بيد الطاهيات المعروفات الماهرات! ودون أن ننسى ما كنا نحصل عليه من مال فضلا عن الطعام، كل ذلك وبركة السيد الوقور المقدس تحيط بنا من كل جانب، ونحن هنا نعني جميع من حضر الموسم من نساء ومن رجال ومن أطفال! كما أن كلا منا يحصل لا شك على نصيبه من دعاء الفقيه المربي الفاضل الذي يصيب في نظرنا كبد الصواب!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *