لعب ولهو.. فملاسنة وغزو عبد المغيث موحد

عندما يتعلق الأمر بهواجس تحقيق مقام الكافة عند عتبة المواجهة وسقف الصراع، ينسى هذا الآخر الفسيفسائي ذكريات الموت، ويوم كان المحور يصب العذاب على جغرافيا الوفاق، فيرد هذا الأخير بحرق اليابس والأخضر، بل يعمد هذا الآخر إلى قبر هذه الحمولة الدموية المأساوية في واد سحيق، فيطمرها رجاء ألا يتذكرها، وألا يعرج على النبس بأحداثها ولو لُماماً، بل نراه قد تحرك إلى دكِّ ما بقي شاهدا في حيز المحسوس من مخلّفاتها، وأدلج ليلا لإعلاء وبناء صرح ما دمّره بآلته العسكرية الامبريالية، وها هي ألمانيا قبل أيام تحتفل في جو بهيج، وحضور مريج، وتؤرخ في فخر واعتزاز لليوم الذي حصل فيه اتحاد ما شطرته الإجراءات التأديبية التي تلت سقوط النازية من برجها النرجسي، والتي وضعت الحجر التأسيسي لسور الفرقة، سور برلين..
بل صيرت في استحالة شيميائية، وهي الدول التي كان الخصام أساسها والعراك أسها، التزاما مِرْكنتليا يقنن تجارة الصلب والحديد، إلى اتحاد كبير له برلمان يسوسه، وعملة توحده، ينصهر على وجنتيها النقدية ظلم التفاوت بين الجنوب والشمال، وتأشيرة تتحرك بموجبها اليد الكادحة باستعباد “حضاري”، وجيش عرمرم لا يكتفي بحماية الثغور، بل يتعداها إلى بسط النفوذ على الثخوم المناوئة لسياسة القهر ونظريات الغدر..
نعم، لقد نسي الغرب بين عشية وضحاها ملايين الضحايا الذين سقطوا بما بات يعرف اليوم بالنيران الصديقة، نسي الأحزان وتناسى الكلوم، فاستعاض عن هدم الأمس وأطلاله بعملقة مشاريع البنيان، ومدِّ الجسور وشق الأنفاق، تقريبا لأواصر الأخوة في الصليب، وتكريسا لهيمنة سوق لا تعبأ بالحدود، ولا تقيم للصغراء وزنا ولا قيمة، وفي مقابل هذه الهيمنة واستشرافا لمآلاتها الجارفة، وعلى المنوال والشاكلة تكتلت بعض الدول المتوجسة في تجمعات سوقية كـ”النافتا” و”الآسيان” من أجل مدافعة هذا السيل العرم، وسيالته البازلتية الحارقة للتل والأكمة، ومن أجل تفعيل آليات المواجهة الصلدة مع ذئب من طبيعته أنه يأكل من الغنم القاصية، ذئب يتغذى على موائد الفرقة الدسمة التي باتت تسمن من ضمور وتغني عن ثبور.
يحصل كل هذا والأمة الموصولة بالله، أمة التوحيد، وحاملة لواء الوعد والوعيد، وفي أعقاب ردهة كلية من زمنها الرافل في الأصالة التاريخية، لم تتخلص بعد من غبار الذل، وحصباء الوهن، الذي أصاب قارعة حصونها عقيب انهيار إمبراطورية خراج الجهات الست، وطي لواء الذي ملأ الأرض عدلا ورعاية، وترهل حبل الاعتصام المتين الذي كان سوط ردع وصمام أمان ضد العوادي الغائرة…
فيا ليت شعري كيف تشتتت تركة الأجداد، وتمزقت أوصال الأشراف، وأصبحت جغرافيتنا المتراصة أرخبيلا بغير بحر، حدودها فصام نكد، يصوب المتاخمون عندها فوهة النار بإحكام إلى نحور الأخوة، وصدور الأبوة، بنادق سبابة الضغط على زنادها تأتمر بأمر من يتربص بنا ريب المنون.
فيا ليت شعري، كيف صار اللعب، وكاد اللهو أن يشعل فتيل الاقتتال والتناحر بين من قبلتهم واحدة، وقرآنهم واحد، ونبيهم واحد؟
وكيف كادت تسعون دقيقة من الجري وراء السراب أن تجعل تاريخا مشتركا للرواسي الشامخات، قاعا صفصفا لا عوج فيه ولا أمتا؟
وكيف تحولت الموالاة في الله إلى البغض والبراءة في الخوض واللعب؟
وكيف استغل صحافيون يوثرون الانتساب لفرعون أبوة عن بنوة هذه الموقعة -إن صح التعبير- الذي له حظ باعتبار ما آلت إليه الأمور؟
صحافيون نفخوا في رماد ساخن يبتغون شرا من الشيطان، شحد الجمر في بؤرة موقد المفاهيم الضيقة التي كان للمادية العلمانية يد في إخراجها من رحم الإلحاد والجحود، وتلك ولا شك صنعة بني علمان الذين يجيدون حرفة النفخ في البالونات المطاطية الجوفاء، ثم يطلقونها لتحلق في سماء الإشاعة وفضاء الإذاعة، وهكذا ففي الوقت الذي كانت فيه القنوات الإسلامية ومنابرها المسؤولة تحاول قدر الوسع والإمكان وأد بنيات الطريق، وطمر فتنة الجاهلية والقطرية المقيتة، كان الإعلام العلماني اللامسؤول يستغيث بأهل المغنى والمرقص، ومشاهير الرياضة والمسلسلات الماجنة، فيعمد بعد هذه الاستغاثة إلى إطلاق عنان الحرية الفوضوية لأصواتهم اللاسلكية، وعويلهم الأثيري، لتترادف اللعنات، وتنهمر الدعاوي المتسخطة، ويسيل لعاب القذف والتنابز الذي يخدم انفصام العروة الوثقى بين الألياف المسلمة، ويحول أخوتها إلى عداوة بغيضة يغذيها الجهل، وتسقيها النعرات الكالحة..
لقد نسي الشعب الجزائري فجأة كل همومه وكلومه بسراب انتصار، الهزيمة خير منه، وتناسى الشعب المصري حصار غزة، وحكاية الطابور الطويل الذي يفضي آخره إلى أرغفة حافية أيام أزمة الخبز، وما هي عليهم ببعيدة الأمس، وسعى الكل وراء الشعارات الساقطة التي تخدم المصالح القومية القميئة، والتي كانت سببا في عزل بؤر الصراع عن جسد الأمة، باسم الوطنية المختزلة، وعلى حساب تضييق الخناق حول رقبة مفهوم الأمة البديع، وعلى هذا النحو والغرار، ولدت الحركات المشبوهة الداعية إلى الانفصال باسم القبيلة، وتميز السحنة أو اللكنة أو اللهجة المحلية، حركات غرضها تمزيق جغرافية ابن خلدون الرحبة التي تخدم قضايا الاقتصاد، ومرام النمو، وأنصبة القوة، حركات همّها تفصيل الأوطان على مقاس مداس جندي البحرية الأمريكية وشمرير الصهيونية الغاصبة.
فباسم علمنة الحياة السياسية وتعطيل سلطان الحاكمية الربانية تفتح الآفاق المتهتكة، والوصائد الراعنة ليتم التشهير بالغدر والجحود باسم أحقية تقرير المصير وباسم الشعوب الأصلية ذات السبق الزمني والخصائص الوراثية المميزة التي تفتح هامشا من التطاول والتجاسر بغير حق لشرعنة التمرد على الوطن الأم، وتبرير الانقلاب على الروابط الحقيقية الأصيلة التي تجمع ولا تفرق، وتوعد ولا تتوعد، وتجدد ولا تعربد، وتعدد ولا تندد، روابط قرآننا العظيم، وسنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، وفهم سلفنا الحكيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *